الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من صفات أهل النار

من صفات أهل النار

من صفات أهل النار

إذا كان يوم القيامة، ونفخ صاحبُ الصورِ في الصور، وجمعَ الله تعالى الأولين والآخرين إلى اليوم الموعود الذي وعدهم بأنه كائن وجامعهم فيه، كما قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق: 20].

إذا كان ذلك اليومُ المهيب، والموقفُ العصيب، جاءت كل نفس وجاء كل أحدٍ يوافي الله سبحانه ذلك اليوم ومعه سائقٌ يسوقُه إليه وشاهدٌ يشهدُ عليه {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ}(ق:21).

وهذا الشهيد غير شهادةِ جوارحِهِ، وغيرُ شهادةِ الأرض التي كان عليها له وعليه، وغيرُ شهادةِ رسولِهِ والمؤمنين؛ فإنَّ الله سبحانه يستشهدُ على العبادِ الحفظةَ والأنبياءَ والأمكنةَ التي عملوا عليها الخير والشرَّ، والجلود التي عَصَوْه بها، ولا يَحكُمُ بينهم بمجرَّد علمِهِ؛ وهو أعدلُ العادلينَ وأحكمُ الحاكمين.

قال بعض أهل العلم: هذا الشهيدُ هو قرينُه الذي قُرِنَ به في الدُّنيا من الملائكةِ يَكْتُبُ عَمَلَه، ويحصي عليه فعله وقوله، ولهذا قال سبحانه: {وَقَالَ قَرِينُهُۥ هَٰذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ}(ق:23)، أي أنه يقولُ حين يسوقه ويُحْضِرُهُ إلى الله: هذا الذي كنتَ وَكَلْتَني به في الدُّنيا قد أحضرتُه وأتيتكَ به. هذا قول مجاهدٍ.. وقال ابنُ قُتيبة: المعنى: هذا ما كتبتُهُ عليه وأحصيتُهُ من قولِهِ وعملِهِ حاضرٌ عندي.
والتحقيقُ أن الآية تتضمَّنُ الأمرين؛ أي: هذا الشخص الذي وُكِلْتُ به، وهذا عَملُهُ الذي أحصيتُهُ عليه.

فحينئذٍ يُقالُ: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 24]، وهذا إما أن يكون خطابًا للسائقِ والشهيد، أو خطابًا للملك المُوَكَّل ــ بعذابِهِ وإن كان واحدًا ــ وهو مذهبٌ معروفٌ من مذاهب العرب في خطابها، ومما أنشد ابن جرير على هذه اللغة قول الشاعر:
فإن تزجراني – يا بن عفان - أنزجر .. .. وإن تتركاني أَحْمِ عِرضًا مُمَنعًا
أو تكونُ الألفُ منقلبةً عن نون التوكيد الخفيفة ثمَّ أُجْرِيَ الوصلُ مُجرَى الوقفِ. كذا قال ابن القيم.
وقال ابن كثير رحمه الله: "وهذا بعيد؛ لأن هذا إنما يكون في الوقف، والظاهر أنها مخاطبة مع السائق والشهيد، فالسائق أحضره إلى عرصة الحساب ، فلما أدى الشهيد عليه ، أمرهما الله تعالى بإلقائه في نار جهنم وبئس المصير".

ثم ذَكَرَ الله سبحانه وتعالى صفاتِ هذا المُلْقَى، فقال: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)}(ق:24ــ 26).

فذَكَرَ له ستَّ صفاتٍ:
إحداها: أنَّه كَفَّارٌ، وهي صيغةُ مبالغةٍ من الكفر، فمعناه أنه كفرَ كفرا عظيما حتى تمكن الكفرُ منه، أو أنه جمعَ أنواع الكفر كلَّها.. كما قال ابن القيم: أنه كفار لنِعَمِ الله وحقوقه، كفَّارٌ بديِنِه وتوحيدِهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ، كَفَّارٌ برُسُلِه وملائكتِهِ، كفَّارٌ بكتبِهِ ولقائِهِ.

الثانيةُ: أنه مُعانِدٌ للحقِّ بدَفْعِهِ جَحْدًا وعِنادًا. كما قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14].

الثالثةُ: أنه مَنَّاعٌ للخير، أي شديد المنع له من كل جهاته، فلا يعرف الخير إليه طريقا، فهو لا يؤدي ما عليه من الحقوق، ولا بر فيه ولا صلة ولا صدقة، كما قال ابن كثير.

وقال ابن القيم: وهذا يَعُمُّ منعَهُ للخيرِ الذي هو إحسانٌ إلى نفسِهِ من الطاعاتِ والقُرَبِ إلى الله، ومنعه للخير الذي هو إحسانٌ إلى الناس؛ فليس فيه خيرٌ لنفسِهِ ولا لبنَي جنسِهِ؛ كما هو حالُ أكثرِ الخَلْقِ.

الرابعةُ: أنه مع مَنْعِهِ للخيرِ مُعتدٍ على الناس، ظلومٌ، غَشُومٌ، مُعتدٍ عليهم بيدِهِ ولسانِهِ.

الخامسة: أنه مُرِيْبٌ؛ أي: صاحبُ رَيْبٍ وشكٍّ، {إنهم كانوا في شك مريب}، وكذلك مع هذا فهو آتٍ لكلِّ رِيبةٍ، يُقال فلان مُرِيبٌ، إذا كان صاحِبَ رِيبةٍ.

السادسةُ: أنه مع ذلك مُشرِكٌ باللهِ، قد اتَّخَذَ مع الله إلهًا آخر؛ يَعبُدُه، ويُحِبُّه، ويَغضَبُ له، ويَرضى له، ويَحلِفُ باسمِهِ، وَينذُرُ له، ويُوالي فيه، ويُعادي فيه.

حتى إن تعديه ومعاداته تمتد إلى الملائكة، وظلمه يمتد إلى قرينه الذي كان يحصي عليه عمله ويكتب فعله وقوله، فيدَّعي عليهِ أنَّه زاد عليه فيما كَتبَهُ عليه وطَغَى، وأنَّه لم يَفْعَلْ ذلك كلَّه، وأنه أعْجَلَهُ بالكتابةِ عن التوبة، ولم يُمْهِلْهُ حتى يتوبَ! فيقولُ المَلَكُ: ما زِدتُ في الكتابةِ على ما عَمِلَ، ولا أَعجَلْتُه عن التوبة، {وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [ق:27].

وقال بعض أهل العلم: إنما القرين هنا هو قرينه من الجن، فهو يزعم أنه هو الذي أطغاه وأَضلَّهُ، وأنه كان سبب كفره وفعله الشر والسوء، فيقولُ قرينُه: لم يكن لي قُوةٌ أن أُضِلَّهُ وأُطْغِيَهُ، ولكن كان في ضلال بعيدٍ؛ اختاره لنفسهِ، وآثَرَهُ على الحقِّ كما قال إبليسُ لأهل النار: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22].

فعندئذ يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم, وصفة قرنائهم من الشياطين: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} فلا فائدة من اختصامكم عندي اليوم {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} في الدنيا، جاءتكم رسلي بالآيات البينات، والحجج الواضحات، والبراهين الساطعات، بالوعيد لمن كفر بي، وعصاني، وخالف أمري ونهيي في كتبي، وعلى ألسن رسلي، فقامت عليكم حجتي، وانقطعت حجتكم، وقدمتم علي بما أسلفتم من الأعمال التي وجب جزاؤها. فـ {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق:29]. فما أنا بمعاقب أحدا من خلقي بجرم غيره، ولا حامل على أحدٍ منهم ذنبَ غيره فمعذّبه به. وإنما الأمر كما قال سبحانه: (ياعِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ) [رواه مسلم].

نسأل الله أن يعيذنا من النار، ومن عذاب النار، ومن صفات أهل أهل النار، ومن كل عمل يقربنا إلى النار.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة