الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التعامل مع حديث الافتراق في الأمة

التعامل مع حديث الافتراق في الأمة

التعامل مع حديث الافتراق في الأمة


الافتراق في العقائد وأصول الدين قدر كوني دلَّ على ثبوته الشرع، والوجود في الواقع، وقد حصل ذلك في هذه الأمة كما حصل في الأمم السابقة، فهو أمر واقع ومشاهد لا يمكن إنكاره، ولا يمكن رفعه، لكن الأمة مطالبة بالاجتماع وسد أبواب الفرقة بقدر الاستطاعة، وهذا واجب شرعي يجب القيام به، ومن خلال حديث الافتراق المشهور ستتبين جملة من القضايا المهمة في هذا الموضوع.

أولا: الكلام في ثبوت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "الحديث صحيحٌ مشهور في السنن والمساند؛ كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم، ولفظه: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة). وفي لفظ: (على ثلاث وسبعين ملة) وفي رواية: (قالوا: يا رسول الله! من الفرقة الناجية؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) وفي رواية: قال: (هي الجماعة، يد الله على الجماعة)".
ومن العلماء من ضعفه كابن حزم في الفِصَل، وكذلك الشوكاني في الفتح الرباني، ولكن الأكثر على تصحيحه من المتقدمين والمتأخرين، فله شواهد يقوي بعضها بعضا.
ثانيا: المقصود بالافتراق:
حمل العلماء معنى الافتراق في الحديث على المخالفة في الأصول والعقائد، فهذا هو الافتراق المذموم، وهو المقصود في الحديث، أما الخلاف في الفقهيات والفروع العملية أمر سائغ، وأسبابه معلومة ومتفهمة، ولذلك لم يزل العلماء يخالف بعضهم بعضا في أكثر مسائل الفقه العملي، ولا ينبني على هذا الاختلاف تبديع ولا وعيد أخروي، فهذا النوع من الخلاف غير مراد بالإجماع كما قال الشاطبي في الاعتصام.
ثالثا: الانشغال بتعيين الفرق تكلف وتجاوز :
لم ينشغل العلماء الذين تعرضوا لهذا الحديث بتحديد الثلاث والسبعين فرقة، واكتفوا بالمعنى الإجمالي للافتراق، وإثبات حصوله في الأمة من حيث الجملة، ولم يبحثوا في تحديد عدد تلك الفرق؛ لأن ذلك بحث في أمر مجهول، وتكلف وقول بالظن، وباب من أبواب الفرقة بين المسلمين، وإنما ذكروا جذور تلك الفرق، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إنه لم يكن من طريقة السلف الجزم بتعيين هذه الفرق، وإن عينوا أصولها كقولهم: أصول البدع أربع: المرجئة، والقدرية، والجهمية، والشيعة، أو ما إلى ذلك من جمل السلف".
وقد يقول قائل إن واقع الافتراق في الأمة يزيد على العدد المذكور في الحديث، والجواب على ذلك أن المقصود في الحديث أصول الفرق، والزيادة ترجع إليها، وحقيقة ذلك لا يعلمه إلا الله كما قال الشاطبي في الاعتصام.
رابعا: الحديث لا يستلزم التكفير لفرق الأمة:
الحكم الوارد في الحديث على الفرق بأنها في النار قد يستند عليه بادي الرأي لتكفير فرق الأمة، وهذا من ضعف العلم بنصوص السنة، فقوله: "كلها في النار" من جملة نصوص الوعيد التي وردت في الكتاب والسنة، وإن كان بعض الفرق قد ابتدعت بدعا مكفرة، ولكن التكفير لمجرد الافتراق ليس له مستند من هذا الحديث ولا من غيره، بل هو انحراف خطير في التعامل مع عموم المسلمين.
جاء في الموسوعة العقدية: أن البدع ليست على درجة واحدة، فمنها البدع المكفرة التي تخرج صاحبها من دائرة الإسلام، ومنها البدع التي هي أقل درجة، ولا تخرج صاحبها عن دائرة الإسلام، ونتيجة للتفريق السابق، فإن المحققين من أهل العلم لا يدخلون غلاة أهل البدع الذين بدعهم مكفرة ضمن الثنتين والسبعين فرقة، ويجعلون حكم الثنتين والسبعين فرقة – بناء على ذلك – حكم أهل الوعيد من أهل الكبائر والمعاصي من هذه الأمة الذين لهم حكم الإسلام في الدنيا، ويدخلون تحت مشيئة الله تعالى في الآخرة، فإن شاء غفر لهم، وإن شاء عذبهم ثم مآلهم إلى الجنة. وهذا هو أمثل الأقوال في هذه المسألة، والله أعلم".
خامسا: وصف الفرقة الناجية:
لم يعين رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الفرقة، وإنما ذكرها بالوصف والعلامة، فهي مماثلة في أحوالها لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد ظلت الأمة على ذلك إلى مقتل عثمان، كما قال الإمام البَرْبَهاري في شرح السنة: "وهكذا كان الدين إلى خلافة عمر وهكذا كان في زمن عثمان، فلما قتل عثمان جاء الاختلاف والبدع، وصار الناس أحزابا وصاروا فرقا".
وذكر الفرقة الناجية بهذا الوصف يمنع من حصرها بطائفة، أو أعيان، أو أرض، بل هي أحوال وأوصاف يتمثلها الموفقون من أطراف الأرض كلها من العرب والعجم، والشرق والغرب، والسابقون واللاحقون.
سادسا: مقصد الحديث:
المقصود الأبرز لهذا الحديث هو التحذير من التفرق والاختلاف في أصول الدين وعقائده، وضرورة الاتباع والاجتماع على ما اجتمع عليه الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقائد السليمة، والطرائق القويمة، فلا يصلح أن يتحول هذا الحديث إلى وسيلة تفريق للأمة، وذلك بأن تزعم كل فرقة بأنها الفرقة الناجية، وأن ما سواها في النار، فهذا سوء فهم للحديث النبوي.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة