الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الاستعاذات النبوية الثمانية

الاستعاذات النبوية الثمانية

الاستعاذات النبوية الثمانية

من يستعرض دعاء النبي صلى الله عليه وسلم تستوقفه الكلمات والعبارات الجامعة، ويجد أن للدعاء النبوي مضامين ودلالات إيمانية وتربوية، ومن تلك الأدعية الاستعاذات النبوية، فقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أمور كثيرة، وأحوال وموانع، ومن أشهرها الاستعاذة من تلك الأمراض الثمانية، وسنتوقف عند بعض معانيها، ودلائل الاقتران بينها.

ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأبي طلحة: «التمس غلاما من غلمانكم يخدمني حتى أخرج إلى خيبر» فخرج بي أبو طلحة مردفي، وأنا غلام راهقت الحلم، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا نزل، فكنت أسمعه كثيرا يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال».

فهذه ثمانية أمراض يصاب بها القلب، ويعتل بها، وقد تمرضه وقد تنهي حيويته، وتقطع صلته، وهذا ما يجعل الأمر في غاية الخطورة، ويجدر بالعبد البحث عن أسبابها، ووسائل دفعها.

وابن القيم رحمه الله يرى أن هذه الأشياء الثمانية عقوبات للمعاصي التي يرتكبها العبد، ومن لا يتأمل سنن الله في العقوبات والمصائب قد لا ينتبه إلى ذلك، فهو يدرك همومه وأحزانه، وعجزه وكسله، وبقية تلك العلل، ولكنه يفسرها تفسيرات ظاهرة، ويقطعها عن أسبابها ومقدماتها.

يقول ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي، وهو يسرد عقوبات الذنوب: ومن عقوبتها: أنها تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة، أو تعوقه أو توقفه وتقطعه عن السير، فلا تدعه يخطو إلى الله خطوة، هذا إن لم ترده عن وجهته إلى ورائه، فالذنب يحجب الواصل، ويقطع السائر، وينكس الطالب، والقلب إنما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي تسيره، فإن زالت بالكلية انقطع عن الله انقطاعا يبعد تداركه، والله المستعان، فالذنب إما يميت القلب، أو يمرضه مرضا مخوفا، أو يضعف قوته ولا بد حتى ينتهي ضعفه إلى الأشياء الثمانية التي استعاذ منها النبي - صلى الله عليه وسلم.

ومن عجيب الدعاء النبوي أنه قرن بين كل مرضين في اللفظ لاقترانهما في المعنى، فقرن بين الهم والحزن، وبين العجز والكسل، وهكذا، فالهم والحزن قرينان، فإن كان اضطراب القلب لما سيحصل في المستقبل، وما يتوقعه الإنسان من حصول مكروه فهو الهم، وإن كان على أمر مضى فهو الحزن، وغالبا ما يصاب العبد بالهموم والأحزان بسببين: الحرص على الدنيا، والتقصير في حق الله تعالى، وبعكسهما تنجلي الأحزان وتنفرج الهموم، ولذلك جاء في الأثر الذي أورده الطبراني في المعجم «الزهد في الدنيا يريح القلب، والجسد».

وهذا يفسر أحوال كثير من الناس الذين تلازمهم الهموم والأحزان، وربما كانوا أهل يسر ومال، ولكنهم فقدوا القناعة والرضا عن الله، فإذا زادوا فوق ذلك الفجور والتقصير في فرائض الله فقد جلبوا الهموم والأحزان بأعظم أسبابهما.

والعجز والكسل قرينان كذلك، فالعجز يحصل عند فقد القدرة، والكسل عند فقد الإرادة، وهما بوابة الحرمان، وطريق الخسارة والتفريط، يقول ابن القيم في مفتاح دار السعادة: وقد يكون العجز ثمرة الكسل فيلام عليه ايضا فكثيرا ما يكسل المرء عن الشيء الذي هو قادر عليه، وتضعف عنه ارادته، فيفضي به الى العجز عنه، وهذا هو العجز الذي يلوم الله عليه، وإلا فالعجز الذي لم تخلق له قدرة على دفعه ولا يدخل معجوزه تحت القدرة لا يلام عليه.

والجبن والبخل قرينان أيضا، فالعبد إذا لم يكن نافعاً ببدنه فهو الجبان، وإن لم ينفع بماله فهو البخيل، إذ إن الإسلام ينشئ الفرد على الإيجابية والعطاء، من خلال بذل النفس والمال في سبيل الله، ولكن قد يقوى حب الدنيا في قلبه فيمنع ما أوجب الله عليه من نصرة الحق بنفسه فيكون جبانا رعديدا، أو يمنع حق الله في ماله فيكون بخيلا، فهذان مرضان قاطعان للعبد، وعلتان مقعدتان له عن القيام بواجب النصرة والإحسان.

وقد يجتمعان في شخص واحد فيكون جبانا بخيلا، من غير تلازم بينهما، ومن الناس من يكون سخيا بنفسه وماله، ومن الناس من يبخل بماله ويجود بنفسه، ومن الناس من يجود بماله ويضن بنفسه، وكل هذه الأصناف موجودة في الناس، وخير الناس من كان نافعا بماله وبدنه.

وأما ضلع الدين وقهر الرجال فإن اقترانهما في المعنى من جهة أن الدَّين سبيل للقهر حين لا يتمكن الإنسان من قضائه، قال المناوي في فيض القدير: ضلع الدين وقهر الرجال قرينتان فإن استعلى الغير عليه بحق فضلع الدين، أو بباطل فقهر الرجال.

وإنما يحصل القهر بسبب أن الإنسان يغفل عن تقدير الله وتدبيره، فيبدأ يواجه تسلط الناس بأسباب مادية، ويغفل عن الاستعانة بالله الذي هو قادر على كف أذاهم، فنواصيهم بيده، ولا يقدمون ولا يؤخرون إلا بتقديره، وقد لفت إلى ذلك المناوي في فيض القدير حيث نقل عن بعض العارفين قوله عند شرح هذا الحديث: يجب التدقيق في فهم كلام النبوة، ومعرفة ما انطوى تحته من الأسرار، ولا تقف مع الظاهر، فالمحقق ينظر ما سبب حصول القهر من الرجال، فيجده من الحجاب عن شهود كونه سبحانه هو المحرك لهم حتى قهروه، فيرجع إلى ربه، فيكفيه قهرهم، والواقف مع الظاهر لا يشهده من الحق، بل من الخلق، فلا يزال في قهر، ولو شهد الفعل من الله لزال القهر ورضي بحكم الله، فما وقعت الاستعاذة إلا من سبب القهر الذي هو الحجاب.

فالدعاء والالتجاء إلى الله، والاستعاذة به من هذه الأدواء والعلل هو منهج نبوي، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم مبدأ الالتجاء إلى الله في حالة الهموم والديون، عن أبي سعيد الجدريّ رضي الله عنه قال: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة جالسا فيه، فقال «يا أبا أمامة مالي أراك جالسا في غير وقت صلاة»، قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله. فقال: «ألا أعلّمك كلاما إذا قلته أذهب الله عزّ وجلّ همّك وقضى دينك»، فقال: بلى يا رسول الله، قال: «قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهمّ إنّي أعوذ بك من الهمّ والحزن. وأعوذ بك من العجز والكسل. وأعوذ بك من البخل والجبن. وأعوذ بك من غلبة الدّين وقهر الرّجال»، قال: فقلت ذلك فأذهب الله همّي وقضى عنّي ديني.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة