الاستقامة والنهي عن الغلو من خلال أحاديث السنة النبوية

20/03/2024| إسلام ويب

الرغبة بالخير وحدها لا تكفي لوصول العبد إلى مراد الله تعالى، بل المطلوب شرعا هو الاستقامة دون طغيان، كما ورد ذلك في قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112]، لأن الرغبة وحدها دون استقامة وتوسط واعتدال قد تكون مزلة قدم، ومورد من موارد الغلو ومجاوزة الحدود.
وفي السنة النبوية مواضع لا تقع تحت الحصر من التوجيهات التي تسد أبواب الغلو، ولا سيما في التصرفات التي يكون دافعها الرغبة في الخير، والحرص على العبادة، فالشيطان قد يتجاوز بالعبد حدود الاستقامة إذا لم يتبصر بطبيعة الإسلام وحدود ما أنزل الله على رسوله.

التسديد والمقاربة:
جاء التحذير من مغالبة الدين ومكابرة الطبيعة البشرية، فالإنسان وإن كان مأمورا بقصد السداد وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد،  لكنه لا يستطيع ذلك في كل أحواله، فهو يقارب السداد، وقد دل على هذا المعنى أدلة كثيرة، ففي صحيح ابن حبان عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن». قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: يعني: لن تقدروا على الاستقامة كلها. 

وفي مسند الإمام أحمد عن الحكم بن حزن الكلفي، وله صحبة من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: شهدنا الجمعة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على قوس، - أو قال على عصا -، فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات، طيبات، مباركات، ثم قال: «أيها الناس، إنكم لن تطيقوا - أو لن تفعلوا - كل ما أمرتم به، ولكن سددوا، وأبشروا» والمعنى: اقصدوا التسديد والإصابة والاستقامة. وقوله " وأبشروا " يعني: أن من قصد المراد فليبشر. 
وفي صحيح مسلم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها كانت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سددوا وقاربوا، وأبشروا، فإنه لن يُدخل الجنةَ أحداً عملُه» قالوا: ولا أنت؟ يا رسول الله قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل».
اي: اطلبوا السداد واعملوا به، وإن عجزتم عنه فقاربوه أي اقربوا منه، والسداد الصواب، وهو بين الافراط والتفريط فلا تغلوا ولا تقصروا.
وقد جعل مطرف بن عبد الله بن الشخير - رحمه الله-  الغلو في أعمال البر سيئة والتقصير سيئة وقال: الحسنة بين السيئتين، والسيئتان إحداهما: مجاوزة القصد، والثانية: التقصير عنه، والحسنة التي بينهما هي القصد والعدل.
 
النهي عن مظاهر الغلو في العبادات: 
كان النبي صلى الله عليه وسلم بجانب الحث والترغيب في العمل والعبادة يلحظ ما يظهر من تصرفات وأقوال تشي ببعض الغلو، فكان ينهى عن ذلك ويحذر منه، وهذه بعض الأمثلة:
 
منها: التحذير من الغلو في حصى الرمي التي يرمى بها الجمرات: ففي سنن النسائي: قال ابن عباس: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على راحلته: «هات، الْقَطْ لي» فلقطت له حصيات هن حصى الخذف، فلما وضعتهن في يده، قال: «بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين». 
قال ابن تيمية في الفتاوى: قوله "إياكم والغلو في الدين": عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، والغلو: مجاوزة الحد بأن يزاد في مدح الشيء أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك".
 
ومنها: التحذير من الغلو في بنيان المساجد: فالمسلم لديه الرغبة في الحصول على ثواب عمارة المساجد وتشييد بنائها، وهذا خير وفضيلة، ولكن هذه الرغبة قد تتجاوز حدود المشروع، فيقع المسلم في الغلو من حيث أراد القربة والاستقامة، فيزخرف المسجد ويزينه بما لا يتناسب مع مقام الصلاة، وفي صحيح البخاري عن نافع، أن عبد الله بن عمر، أخبره: أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللِّبْن، وسقفه الجريد، وعُمُدُهُ خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر: وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة: وبنى جداره بالحجارة المنقوشة، والقصة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج ". 
وقد نقل ابن حجر في فتح الباري أن السنة في بنيان المسجد القصد وترك الغلو في تحسينه، فقد كان عمر مع كثرة الفتوح في أيامه وسعة المال عنده لم يغير المسجد عما كان عليه وإنما احتاج إلى تجديده لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه ثم كان عثمان والمال في زمانه أكثر فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة.
 
ومنها: النهي عن إلزام النفس بما لا يلزمها شرعا في زمن التشريع خشية أن يفرض، ومن الأمثلة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرغِّب الصحابة في قيام رمضان، ولكنه كان يلحظ ضرورة الاقتصاد في العبادة حتى لا يفرض عليهم قيام الليل، فيحصل منهم تفريط فيه فيعاقبوا، فلم يخرج إليهم حسب رغبتهم وحماسهم. 
ففي حديث تأخره عن الناس في صلاة الليل في رمضان، كما في صحيح البخاري: «قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة». قال ابن بطال في شرحه على صحيح البخاري: وإنما نهاهم عن مثل هذا وشبهه تنبيها لهم على ترك الغلو في العبادة وركوب القصد فيها؛ خشية الانقطاع والعجز عن الإتيان بما طلبوه من الشدة في ذلك، ألا ترى قوله تعالى فيمن فعل مثل ذلك: (قد سألها قوم من قبلكم) [المائدة: 102] ، ففرضت عليهم، فعجزوا عنها فأصبحوا بها كافرين. 
 
ومنها: النهي عن الوصال في الصوم: في صحيح البخاري عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تواصلوا»، قالوا: إنك تواصل، قال: «إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» ، فلم ينتهوا عن الوصال، قال: فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين أو ليلتين، ثم رأوا الهلال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو تأخر الهلال لزدتكم» كالمنكل لهم.

قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: وسبب تحريمه الشفقة عليهم لئلا يتكلفوا ما يشق عليهم، وأما الوصال بهم يوما ثم يوما فاحتُمِل للمصلحة في تأكيد زجرهم وبيان الحكمة في نهيهم، والمفسدة المترتبة على الوصال وهي الملل من العبادة والتعرض للتقصير في بعض وظائف الدين من إتمام الصلاة بخشوعها وأذكارها وآدابها وملازمة الأذكار وسائر الوظائف المشروعة في نهاره وليله والله أعلم

ومنها النهي عن الغلو في القرآن، كما أن جفاءه منهي عنه، وكلاهما سيئة مذمومة، فقد روى ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن شبل، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تعلموا القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به". 
قال المناوي في فيض القدير في معنى "ولا تغلوا فيه" أي: لا تتجاوزوا حده من حيث لفظه أو معناه بأن تتأولوه بباطل، أو المراد: لا تبذلوا جهدكم في قراءته وتتركوا غيره من العبادات، فالجفاء عنه: التقصير، والغلو: التعمق فيه، وكلاهما شنيع، وقد أمر الله بالتوسط في الأمور فقال {لم يسرفوا ولم يقتروا}. 
وفي سنن أبي داود عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط». فيدخل في الغالي فيه: من يتأول ظواهره على خلاف محكماته، ويحمله على المعاني الباطلة، ويجعله دليلا له في فجوره وظلمه واستحلاله ما حرم الله من الدماء والأموال والأعراض، فهذا وغيره من مجاوزة الحد. وقيل: الغلو المبالغة في التجويد أو الإسراع في القراءة، بحيث يمنعه عن تدبر المعنى. مرقاة المفاتيح.
 
الاستنكاف عن المباحات بالكلية علامة الغلو: 
تركت الشريعة كثيرا من الأمور في دائرة المباح قصدا من غير غفلة ولا نسيان، وذلك تماشيا مع الطبيعة البشرية التي تسأم التكليف ويعرض لها العجز والضعف والملل، وحين التأمل في وظيفة المباح بالكل نجده خادما للأحكام التكليفية الأخرى كما ذكر الشاطبي في الموافقات، فهو يعين على فعل الواجبات والمندوبات، وعلى ترك المحرمات والمكروهات، ففعل المباحات إذا اقتضتها الظروف مما يعين على الاستقامة وترك الغلو، ولذلك كان الإعراض عن المباحات بالكلية خلاف الشرع والفطرة. 
ففي صحيح ابن حبان عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قشف الهيئة، فقال: «هل لك من مال»؟ فقلت: نعم، قال: «من أي مال»؟ قلت: من كل قد آتاني الله من الإبل والرقيق والغنم، قال: «إذا آتاك الله مالا فلير عليك» وروى البخاري عن عمر قال: «إذا وسع الله فأوسعوا». 
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينهى عن المباح، وإنما كان يرشده ويهذبه، ومن أمثلة ذلك: ما أخرج الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بنساء من الأنصار في عرس لهن وهن يغنين: " وأهدى لها كبشا تنحنح في المربد وزوجك في البادي وتعلم ما في غد" فقال: «لا يعلم ما في غد إلا الله». 
قال ابن حجر: وإنما أنكر عليها ما ذكر من الإطراء حيث أطلق علم الغيب له وهو صفة تختص بالله تعالى.

ومن آثار الغلو في العبادة أنه قاطع للعبد عن الاستمرار:
استدامة العمل أحد مقاصد الشريعة من النهي عن التعمق ومحاولة التقصي، فمن فعل ذلك فسينقطع حتما، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على القليل الدائم من العمل، وكان الغالب من حاله صلى الله عليه وسلم المداومة على العمل ولو كان قليلا، ومنه: ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: « كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستطيع» وتعبيرها بقولها "ديمة" يدل على العمل الدائم النافع، قال ابن بطال: وأصل الديمة: المطر الدائم مع سكون، قال لبيد:

باتت وأسبل واكف من ديمة     يروى الخمائل دائما تسجامها
     

فأخبر أن الديمة: الدائم، فشبهت عائشة عمله صلى الله عليه وسلم في دوامه مع الاقتصاد وترك الغلو بديمة المطر. 

ومن أثار الغلو: التعقب على الشرع:

من أشأم ما يجر إليه الغلو هو ما يحصل من سوء ظن لدى صاحبه بالشرع وبالعلماء والصلحاء وخيار الأمة، والشعور بالرضى عن النفس، وبلوغه درجة التعقيب على الشرع نفسه، وهذا من أخطر مراحل الغلو، ففي حديث عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي، الذي قال: اعدل يا رسول الله، فقال: «ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل» قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه، قال: «دعه، فإن له أصحابا، يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»

قال ابن هبيرة في الإفصاح: وفي الحديث أن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين، والحكمة فيه أن في قتالهم حفظ رأس مال الإسلام، وفي قتال أهل الشرك طلب الربح، وحفظ رأس المال أولى، وفيه الزجر عن الأخذ بظواهر جميع الآيات القابلة للتأويل التي يفضي القول بظواهرها إلى مخالفة إجماع السلف، وفيه التحذير من الغلو في الديانة، والتنطع في العبادة بالحمل على النفس فيما لم يأذن فيه الشرع، وقد وصف الشارع الشريعة بأنها سهلة سمحة، وإنما ندب إلى الشدة على الكفار وإلى الرأفة بالمؤمنين فعكس ذلك الخوارج كما تقدم بيانه.

www.islamweb.net