الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : في تلاوة آيات الكتاب المجيد ملحنة .

( ومن يتل آيات الكتاب ) المجيد ( الممجد ) حال كونها ملحنة في كرهه القاضي اتبع وفصل قوم فيه تفصيل مرشد ( ملحنة ) بأن يراعى فيها الألحان وقانون الموسيقى ( في كرهه ) أي في كراهة هذه التلاوة ( القاضي أبا يعلى بن الفراء ( اتبع ) قال في الفروع : [ ص: 177 ] وكره الإمام أحمد قراءة الألحان وقال بدعة لا يسمع كل شيء محدث لا يعجبني إلا أن يكون طبع الرجل كأبي موسى .

ونقل عنه غير واحد أو يحسنه بلا تكلف ( وفصل قوم فيه ) أي في ذلك يعني قراءة الألحان ( تفصيل ) شخص ( مرشد ) اسم مفعول أي موفق للرشد والتسديد ، أو اسم فاعل أي مرشد لغيره فقالوا :     إذا حركات اللفظ بدلن أحرفا
بإشباعه حرم لذاك وشدد ( إذا حركات اللفظ ) في القراءة ( بدلن أحرفا ) بأن تولد من الفتحة ألفا ومن الضمة واوا ومن الكسرة ياء ( ب ) سبب ( إشباعه ) أي إشباع اللفظ القارئ ( حرم ) أي اعتقد حرمته ( ل ) أجل ( ذاك ) أي إبدال الحركات حروفا ( وشدد ) في النهي عنه والتحريم لأنه زيادة أحرف في القرآن العظيم .

قال في الفروع : قال جماعة : إن غيرت يعني قراءة الألحان النظم حرمت في الأصح ، وإلا فوجهان في الكراهة . وفي الوسيلة يحرم نص عليه وعنه يكره ، وقيل لا ولم يفرق .

قال في الإقناع : وكره الإمام أحمد قراءة الألحان وقال هي بدعة ، فإن حصل معها تغيير نظم القرآن وجعل الحركات حروفا حرم .

وقال الشيخ : التلحين الذي يشبه الغناء مكروه ولا يكره الترجيع وتحسين القراءة . قال في الشرح : بل ذلك مستحب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به رواه البخاري ، ويأتي في آداب قراءة القرآن إن شاء الله تعالى .     فإن لم يكن هذا فلا بأس قد تلا
الرسول بترجيع وصوت له ندي ( فإن لم يكن هذا ) أي تغيير نظم القرآن وجعل الحركات حروفا بأن خلا عن ذلك ( فلا بأس ) أي لا حرج ولا حرمة ، وقد علمت أنها مكروهة كما جزم به صاحب الإقناع وظاهر كلام الناظم لا كراهة خلافا للقاضي ، ومن ثم قال ( قد تلا الرسول ) الأمجد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم [ ص: 178 ] بترجيع ) أي ترديد ( وصوت له ) أي للنبي صلى الله عليه وسلم ( ندي ) بكسر الدال وإسكان الياء لضرورة الوزن أي حسن ورطب فلا كراهة مع ثبوت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه سبب الرقة وإثارة الخشية وإقبال النفوس على استماع القرآن العظيم .

قال الإمام ابن القيم في الفتاوى الطرابلسية : ونقل عنه في تسهيل السبيل في باب تحريم تلحين القرآن والتغني به : لم يثبت فيه شيء من الأحاديث ، يعني في النهي عن التلحين والتغني به ، بل ورد خلاف ذلك في الصحيح ، وهو { أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وهو يقرأ سورة الفتح ويرجع فيها } قال الراوي والترجيع ( آ آ آ ) قلت والحديث في الصحيحين وغيرهما من حديث معاوية بن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال . { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورة الفتح فرجع في قراءته } .

وفي الصحيحين أيضا عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له { لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود } وفي رواية لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له { لقد رأيتني وأنا أسمع لقراءتك البارحة } وأقول : أما تحسين الصوت بالقراءة فقد أجمع العلماء رضي الله عنهم من السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار وأئمة المسلمين على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ، وأقوالهم وأفعالهم مشهورة بذلك في غاية الشهرة ، ودلائل هذا من الأحاديث كثيرة جدا كحديث { زينوا القرآن بأصواتكم } وحديث { لقد أوتي هذا مزمارا } وحديث { ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به } رواه الشيخان .

ومعنى أذن استمع كما يأتي بأبسط من هذا في آداب القرآن ، وحديث { لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته } رواه ابن ماجه ، وحديث { من لم يتغن بالقرآن فليس منا } رواه أبو داود بإسناد جيد .

قال جمهور العلماء : معنى من لم يتغن بالقرآن أي من لم يحسن صوته به . [ ص: 179 ] وعن ابن أبي مليكة قال قال عبيد بن أبي يزيد : مر بنا أبو لبابة فأتبعناه حتى دخل بيته فدخلناه عليه ، فإذا رجل رث الهيئة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { ليس منا من لم يتغن بالقرآن } قال فقلت لابن أبي مليكة يا أبا محمد أرأيت إن لم يكن حسن الصوت ؟ قال يحسنه ما استطاع . رواه أبو داود . والمرفوع منه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

وفي الصحيحين عن البراء رضي الله عنه قال { سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالعشاء بالتين والزيتون فما سمعت أحدا أحسن صوتا منه } . فالعلماء متفقون على استحباب تحسين الصوت بالقراءة وترتيلها ما لم تخرج عن حد القراءة بالتمطيط فإن أفرط حتى زاد حرفا أو أخفاه حرم .

وأما القراءة بالألحان فهي محل الخلاف حيث خلت عن التمطيط وإبدال الحركات حروفا . فالمذهب الكراهة تنزيها .

وظاهر كلام الناظم عدم الكراهة . وقد يقال التمطيط المتكلف المشتمل على التعسف والتشدق وتلوق الفم مكروه وإن لم يتولد منه حروف لإخراج القراءة عن العادة المستمرة والقانون العربي إلى التعوج والتشدق .

وقد قال تعالى { قرآنا عربيا غير ذي عوج } ومتى خلت عن هذه الصفات فلا كراهة والله أعلم بالصواب من ذلك ومذهب الحنفية عدم الكراهة . وظاهر كلام النووي في ( التبيان ) عدم الكراهة حيث لا تمطيط يتولد منه حروف لأنه قال إن لم يخرجه اللحن عن لفظه وقرأه على ترتيله كان أي التلحين مباحا .

وقال قبل هذا : وأما القرآن بالألحان فقد قال الشافعي رحمه الله في مواضع أكرهها ، وقال في مواضع لا أكرهها .

قال أصحابنا : ليست على قولين بل فيه تفصيل ، فإن أفرط في التمطيط فجاوز الحد فهو الذي كرهه وإن لم يجاوز فهو الذي لم يكرهه . ثم نقل عن صاحب الحاوي منهم أنه قال : القراءة بالألحان الموضوعة إن أخرجت لفظ القرآن عن صيغته بإدخال حركات فيه أو إخراج حركات عنه أو قصر ممدودا أو مد مقصورا ، وتمطيط يخفى به بعض اللفظ ويلتبس المعنى فهو حرام يفسق به القارئ ويأثم به المستمع ، لأنه عدل به عن نهجه [ ص: 180 ] القويم إلى الاعوجاج والله تعالى يقول { قرآنا عربيا غير ذي عوج } قال وإن لم يخرجه اللحن عن لفظه وقرأه على ترتيله كان مباحا كما مر ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية