الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 231 ] ( فصل )

ومع الأمن استقبال عين الكعبة لمن بمكة ; [ ص: 232 ] فإن شق ففي الاجتهاد نظر [ ص: 233 ] وإلا فالأظهر جهتها اجتهادا [ ص: 234 ] كأن نقضت ، وبطلت إن خالفها ، وإن صادف .

التالي السابق


( فصل في استقبال القبلة ) ( و ) شرط لصحة صلاة ( مع الأمن ) من نحو عدو وسبع والقدرة قيل الأولى ذكرها بدل الأمن لاستلزامها إياه دون العكس والذكر على المعتمد فشروطه ثلاثة ونائب فاعل شرط المقدر ( استقبال ) أي مقابلة ( عين ) أي ذات ( الكعبة ) بجميع البدن يقينا ( لمن ) يصلي ( بمكة ) وما في حكمها مما يمكن فيه استقبال عينها يقينا كالجبال المحيطة بها والأودية والطرق القريبة منها فلا يكفيهم استقبال جهتها ولا اجتهاد في استقبال عينها لأن القدرة على استقبال العين واليقين تمنع استقبال الجهة والاجتهاد في استقبال العين المعرضين للخطأ فإن صلوا صفا مستقيما مقابلها زائدا على عرضها كصف معتدل من أول المسجد الحرام إلى آخره من أي جهة من جهاتها الأربع فصلاة الذي لم يقابل بدنه كله أو بعضه الكعبة باطلة لأنه لم يستقبل عينها وإنما استقبل جهتها .

وهذا واقع في الصلوات الخمس كل يوم والناس غافلون عنه وإنما يعتنون باعتدال الصفوف فالواجب عليهم صلاتهم دائرة محيطة بالكعبة بحيث يقابلها كل واحد منهم بجميع بدنه أو قوسا محيطا ببعضها كذلك إلا أن يكون طول الصف قدر عرض الكعبة أو أقل منه فلا يحتاجون إلى تقويسه وكيفية استقبال الكعبة لمن يصلي بمكة أو ما في حكمها في غير المسجد الحرام أن يصعد على شيء مرتفع كجبل أو سطح حتى يرى الكعبة ويقابلها ببدنه ويصلي أو يرسل شيئا ثقيلا في حبل إلى الأرض فكلما قابله من حائط السقف الذي هو واقف عليه فهو مسامت لها فيعلمه ويصلي إليه هو وغيره كلما أراد الصلاة ولا ينحرف عنه يمينا ولا شمالا . [ ص: 232 ] فإن عجز عن الصعود أو كان بليل أو حال بينه وبينها شيء عال استدل على عينها بعلاماتها اليقينية بحيث لو أزيل الحائل وجد نفسه مسامتا لها ويصلي إليها وحيث عرف مسامتها من بيته فيصلي إليه بقية عمره فليس المراد باستقبال عينها لمن بمكة وما ألحق بها خصوص رؤيتها ومشاهدتها بحيث لا تحجب عنه ولا يحول بينهما حائل واحترز بالأمن من الخوف من عدو أو سبع أو لص أو قاطع طريق أو نحوها فلا يشترط معه الاستقبال وبالقدرة من العجز عنه كمن تحت هدم ومربوط وزمن عاجز عن التحول فلا يشترط معه أيضا وبالذكر من النسيان فيسقطه على المعتمد .

( فإن ) أمكن من بمكة وما ألحق بها استقبال عينها يقينا و ( شق ) عليه لمرض أو هرم ( ففي ) جواز ( الاجتهاد ) في استقبال عينها لبناء الدين على التيسير ومنعه نظرا إلى أن القدرة على اليقين تمنع الاجتهاد ( نظر ) أي تردد للمتأخرين لعدم نص المتقدمين وصوب ابن راشد منع الاجتهاد وأما من لا قدرة له على استقبال عينها يقينا بوجه كشديد مرض أو زمن أو مربوط فيجب عليه الاجتهاد في استقبال عينها اتفاقا .

وأما من لا قدرة له على التحول ولا يجد من يحوله وهو متوجه لغير جهتها مع علمها لمرض أو هدم عليه أو ربط فيصلي لغير جهتها لعجزه فتحصل أن من بمكة أو ما ألحق بها أقسام .

الأول صحيح آمن فلا بد له من استقبال عينها يقينا إما بصلاته في المسجد الحرام أو بالصعود على مرتفع ورؤيتها فإن لم يمكنا استدل على عينها بعلامة يقينية يقطع بها قطعا لا يحتمل النقيض أنه لو أزيل الحائل لكان مسامتا لها فإن لم يمكن فلا تصح صلاته إلا في المسجد أو حيث يراها .

الثاني مريض مثلا يمكنه ما يمكن الصحيح لكن بجهد ومشقة فترددوا في جواز اجتهاده في استقبال عينها والراجح المنع .

الثالث مريض مثلا لا يمكنه ذلك فهذا يجتهد في استقبال عينها اتفاقا .

الرابع مريض مثلا عالم جهتها يقينا وهو متوجه لغيرها ولا يقدر على التحول ولا [ ص: 233 ] يجد من يحوله لها فهذا يصلي لغير جهتها كالخائف من نحو سبع وعدو لأن شرط الاستقبال الأمن والقدرة سواء كان بمكة أو غيرها ويأتي هنا فالآيس أول المختار والراجي آخره والمتردد وسطه .

( وإلا ) إي وإن لم يكن بمكة ولا بما ألحق بها ( فالأظهر ) عند ابن رشد من الخلاف أن الذي يشترط استقباله في صحة الصلاة ( جهتها ) أي الكعبة لا عينها ومقابله أنه عينها قاله ابن القصار وغيره ومرادهم تقدير المصلي ذلك لا أنه يلزمه استقبال عينها في الواقع كمن بمكة وما ألحق بها لأن هذا تكليف ما لا يطاق ويلزمه بطلان صلاة من صلى مقتديا بمن بينه وبينه زائد على عرض الكعبة لأن أحدهما غير مستقبل عينها ويلزم من بطلان صلاة الإمام بطلان صلاة مأمومه إلا فيما استثنى وليس هذا منه .

وأجيب عن هذا أيضا بأن الجسم يقابل بأكبر منه مع البعد وكلما زاد البعد عظم المقابل كغرض الرماة وقطب الدائرة وبحث فيه بأنه يحتاج لتقوس المقابل كالدائرة حول قطبها وإلا لزم في صف معتدل ولا تقوس فيه كما هو المعتاد في جميع البلاد وإن أريد إمكان الوصل بينهما بخط ولو مال يمينا أو شمالا رجع الخلاف لفظيا عبق وينبني على القولين من اجتهد فأخطأ فعلى المذهب يعيد في الوقت وعلى مقابله يعيد أبدا البناني الحق أن هذا الخلاف لا ثمرة له كما صرح به المازري وأنه لو اجتهد فأخطأ فإنما يعيد في الوقت على القولين لأنها قبلة اجتهاد عليهما والأبدية عندنا إنما هي في قبلة القطع .

ولعل عبق أخذ ذلك مما في التوضيح عن عز الدين بن عبد السلام وهو شافعي المذهب ( اجتهادا ) في استقبال جهتها إلا أن يكون بالمدينة المنورة بأنوار سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أو جامع عمرو بمصر العتيقة فلا يجوز له الاجتهاد المؤدي لمخالفة محرابهما ويجب عليه تقليد محرابهما لأن محراب المدينة بالوحي ومحراب جامع عمرو بإجماع من الصحابة نحو الثمانين وإن انحرف عن أحدهما ولو يسيرا بطلت الصلاة ولكن بحث بالنسبة لجامع عمرو بأن الذين حضروه نحو الثمانين وذلك لا يكفي في الإجماع .

ولذا روي أن الليث وابن لهيعة كانا يتيامنان فيه قيل وتيامن به قرة لما بناه على عهد [ ص: 234 ] بني أمية ومثل جامع عمرو وجامع بني أمية بالشام وجامع القيروان لاجتماع جمع من الصحابة بهما أيضا ابن غازي لم أجد في البيان ولا في الوقت استظهارا لابن رشد ، وإنما هو لابن عبد السلام وهو ظاهر كلام غير واحد ، فالمناسب فالأصح أو الأحسن . وأجاب تت بأن ابن رشد اقتصر في المقدمات على غير قول ابن القصار ففهم المصنف منه أنه الراجح عنده والخرشي بأن الاستظهار وقع لابن رشد في قواعده الكبرى .

وشبه في الاجتهاد في استقبال الجهة فقال ( كأن ) بفتح الهمز وسكون النون حرف مصدري مقرون بكاف التشبيه صلته ( نقضت ) بضم النون وكسر القاف وفتح الضاد المعجمة وتاء التأنيث ، أي هدمت الكعبة ونقل حجرها ونسي محلها ، حماها الله تعالى بفضله من ذلك فالواجب إذ ذاك الاجتهاد في استقبال جهتها اتفاقا لانعدام عينها وجهل محلها سواء كان بمكة أو غيرها وفي عبق إن كان بمكة اجتهد في استقبال عين محلها .

( وبطلت ) الصلاة ( إن ) أداه اجتهاده إلى جهة و ( خالفها ) بصلاته لغيرها عامدا إن لم يصادف القبلة في التي صلى إليها بل ( وإن صادف ) ها في الجهة التي صلى إليها فيعيدها أبدا لدخوله على الفساد وتعمده إياه فلم ينو ما تبرأ ذمته بها فإن صلى لغيرها نسيانا فصادف فالظاهر الجزم بصحتها وبراءة ذمته بها لجزمه النية وتبين الموافقة في نفس الأمر فإن صلى لجهة اجتهاده فتبين خطؤه فيعيد في الوقت إن شرق أو غرب أو استدبر قاله في المدونة لا إن انحرف يسيرا . وقيد الباجي إعادته فيه بظهور أدلة القبلة . قال فإن خفيت فلا يعيد لأنه مجتهد تحير واختار جهة صلى إليها كما هو الواجب عليه .




الخدمات العلمية