الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 186 ] 24 - باب النوم قبل العشاء لمن غلب

                                خرج فيه حديثين :

                                الأول :

                                قال :

                                544 569 - حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال : حدثني أبو بكر ، عن سليمان - هو ابن بلال - : ثنا صالح بن كيسان ، قال : أخبرني ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : أعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعشاء حتى ناداه عمر : الصلاة ، نام النساء والصبيان . فخرج فقال : ( ما ينتظرها من أهل الأرض أحد غيركم ) .

                                قال : ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة ، قال : وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول .


                                التالي السابق


                                ( أبو بكر ) هو عبد الحميد بن أبي أويس ، وهذا الحديث من جملة نسخة تروى بهذا الإسناد ، قد سبق بعضها .

                                وقوله : ( قال : ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة ) قال : ( وكانوا يصلون ) - إلى آخره . الظاهر أنه مدرج من قول الزهري .

                                وقد خرج هذا الحديث مسلم بدون هذا الكلام في آخره من رواية يونس وعقيل ، عن ابن شهاب ، وزاد فيه : وذلك قبل أن يفشو الإسلام في الناس .

                                وقد خرجه البخاري قبل هذا من حديث عقيل كذلك .

                                [ ص: 187 ] وخرجه فيما يأتي في أواخر الصلاة في ( باب : وضوء الصبيان ) : حدثنا أبو اليمان : أبنا شعيب ، عن الزهري .

                                ثم قال : وقال عياش : ثنا عبد الأعلى : ثنا معمر ، عن الزهري - فذكر هذا الحديث بمعناه . وفيه : قال : ( إنه ليس أحد من أهل الأرض يصلي هذه الصلاة غيركم ) . ولم يكن يومئذ يصلي غير أهل المدينة .

                                ثم خرجه في الباب الذي يليه : ( باب : خروج النساء إلى المساجد ) عن أبي اليمان ، عن شعيب ، وقال في حديثه : ولا يصلي يومئذ إلا بالمدينة ، وكانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل .

                                وخرجه النسائي من طريق شعيب ، عن الزهري .

                                ومن طريق محمد بن حمير ، عن ابن أبي عبلة ، عن الزهري ، به ، وزاد فيه : ( ولم يكن يصلى يومئذ إلا بالمدينة ) . ثم قال : ( صلوها فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل ) .

                                قال : ولفظه لمحمد بن حمير .

                                فجعله من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا غير محفوظ ; والظاهر أنه مدرج من قول الزهري . والله أعلم .

                                وقد خرجه الطبراني في ( مسند إبراهيم بن [أبي] عبلة ) من غير وجه ، عن محمد بن حمير ، وفيه : ( وكانوا يصلونها ) ، وهذا يبين أنه مدرج .

                                وعند مسلم فيه زيادة أخرى مرسلة . قال ابن شهاب : وذكر لي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما كان لكم أن تنزروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة ) . وذلك حين صاح عمر بن الخطاب .

                                [ ص: 188 ] وهذا يدل على أن في هذا الحديث ألفاظا أرسلها الزهري ، وكانت تلك عادته أنه يدرج في أحاديثه كلمات يرسلها أو يقولها من عنده .

                                وفي هذا ما يستدل به على وقت العشاء ، وأنه من مغيب الشفق إلى ثلث الليل ، وهذا القدر متفق على أنه وقت للعشاء ، وأن المصلي فيه مصل للعشاء في وقتها ، إلا ما حكاه ابن المنذر عن النخعي : أن وقت العشاء إلى ربع الليل ، ونقله ابن منصور عن إسحاق .

                                واختلفوا : فيمن صلى بعد ذهاب ثلث الليل ، وفيمن صلى قبل الشفق ؟

                                فأما من صلى بعد ثلث الليل فسيأتي الكلام عليه في موضعه من الكتاب - إن شاء الله .

                                وأما تقديم صلاة العشاء على مغيب الشفق :

                                فحكى طائفة من العلماء الإجماع على أن من صلى العشاء قبل مغيب الشفق فعليه الإعادة ; لأنه مصل في غير الوقت ، وحكي فيه خلاف شاذ .

                                وقد تقدم عن عبد الكريم ، عن مجاهد ، أنه قال : لأن أصلي صلاة العشاء وحدي قبل أن يغيب الشفق أحب إلي من أن أنام ثم أدركها مع الإمام .

                                خرجه أبو نعيم في ( كتاب الصلاة ) له .

                                وعبد الكريم ، هو أبو أمية ، ضعيف جدا ، مع أن البخاري حسن الرأي فيه .

                                وقال حرب : سئل أحمد عن الرجل يصلي المغرب قبل أن يغيب الشفق ؟ قال : لا أدري .

                                وروى الإمام أحمد : ثنا عبد الله بن الحارث المخزومي : ثنا ثور بن يزيد ، عن سليمان بن موسى ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 189 ] فذكر حديث صلاة جبريل به في اليومين ، وقال في الأول : ( ثم صلى العشاء قبل غيبوبة الشفق ) .

                                قال البيهقي : هذا مخالف لسائر الروايات .

                                وقد خرجه النسائي عن عبيد الله بن سعيد ، عن المخزومي به ، وقال في الأول : ( والعشاء حين غاب الشفق ) .

                                وقد يحمل الشفق في هذا الحديث - على تقدير كونه محفوظا - ، وفي كلام مجاهد وأحمد على البياض ، أو يكون مجاهد يرى أن وقت العشاء يدخل بدخول وقت المغرب .

                                وقد اختلف العلماء في الشفق الذي يدخل به وقت العشاء : هل هو البياض ، أو الحمرة ؟

                                فقال طائفة : هو الحمرة ، وهو قول ابن عمر ، وأبي هريرة ، وابن عباس .

                                وروي عن عمر وعلي وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وقول كثير من التابعين ، ومذهب الثوري والأوزاعي والحسن بن حي ومالك والشافعي وإسحاق وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور .

                                ورواه عتيق بن يعقوب ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر - مرفوعا .

                                خرجه الدارقطني وغيره .

                                ورفعه وهم .

                                وقال البيهقي في ( كتاب المعرفة ) : لا يصح فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء .

                                [ ص: 190 ] وفي ( صحيح ابن خزيمة ) في حديث عبد الله بن عمرو المرفوع : ( ووقت المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق ) .

                                وقد أعلت هذه اللفظة بتفرد محمد بن يزيد الواسطي بها عن سائر أصحاب شعبة .

                                وقال طائفة : الشفق البياض الباقي بعد الحمرة .

                                وروي عن عمر بن عبد العزيز ، وهو قول أبي حنيفة ، وزفر ، والمزني ، وروي - أيضا - عن الثوري والأوزاعي .

                                وأما الإمام أحمد فالمشهور عند القاضي أبي يعلى ومن بعده من أصحابه أن مذهبه أن الشفق الحمرة حضرا وسفرا .

                                وقد نص أحمد في رواية الأثرم فيمن صلى العشاء في الحضر قبل مغيب البياض : يجزئه ، ولكن أحب إلي أن لا يصلي في الحضر حتى يغيب البياض .

                                ونقل عنه جمهور أصحابه : أن الشفق في الحضر البياض ، وفي السفر الحمرة وهو الذي ذكره الخرقي في ( كتابه ) ، قال : لأن في الحضر قد تنزل الحمرة فيواريها الجدران ، فيظن أنها قد غابت ، فإذا غاب البياض فقد تيقن .

                                وحمل القاضي ومن بعده هذا على مجرد الاحتياط والاستحباب دون الوجوب .

                                ومن الأصحاب من حكى رواية أخرى عن أحمد : أن الشفق البياض في السفر والحضر ، ولا يكاد يثبت عنه .

                                وقال ابن أبي موسى : لم يختلف قول أحمد : أن الشفق الحمرة في السفر ، واختلف قوله في الحضر على روايتين .

                                [ ص: 191 ] ونقل ابن منصور في ( مسائله ) ، قال : قلت لأحمد : ما الشفق ؟ قال : في الحضر البياض ، وفي السفر أرجو أن يكون الحمرة ; لأن في السفر يجمع بين الصلاتين جد به السير أو لم يجد ، فإذا جمع بينهما فلا يبالي متى صلاها .

                                وهذا تعليل آخر بجواز الجمع بين الصلاتين ، وهو يدل على جواز جمع التقديم مع التفريق بين الصلاتين ، وعلى أنه لا يشترط للجمع نية الجمع ، وقد سبق التنبيه على ذلك .

                                ومقصود البخاري بتخريج هذا الحديث في هذا الباب : أن من نام قبل صلاة العشاء مغلوبا على ذلك من غير تعمد له فإنه لا يدخل في النهي ، لأن النهي إنما هو عن تعمد ذلك ، فأما من لم يتعمده فلا يتوجه إليه النهي .



                                الخدمات العلمية