الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      الفرع الثاني : اختلف العلماء في تحديد المسافة التي تقصر فيها الصلاة . فقال مالك والشافعي وأحمد : هي أربعة برد ، والبريد أربعة فراسخ ، والفرسخ ثلاثة أميال ، وتقريبه بالزمان مسيرة يومين سيرا معتدلا ، وعندهم اختلاف في قدر الميل معروف واستدل من قال بهذا القول بما رواه مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة في مسيره ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مالك : وذلك نحو من أربعة برد ، وريم موضع . قال بعض شعراء المدينة : [ الوافر ]

                                                                                                                                                                                                                                      فكم من حرة بين المنقى إلى أحد إلى جنبات ريم

                                                                                                                                                                                                                                      وبما رواه مالك عن نافع عن سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيره ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مالك : وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد ، وبما قال مالك : إنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف ، وفي مثل ما بين مكة وعسفان ، وفي مثل ما بين مكة وجدة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مالك : وذلك أربعة برد وذلك أحب ما تقصر فيه الصلاة إلي ، وبما رواه مالك عن نافع أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة . كل هذه الآثار المذكورة في " الموطأ " ، وممن قال بهذا ابن عمر وابن عباس كما ذكرناه عنهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال البخاري رحمه الله في " صحيحه " : وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد ، وهي ستة عشر فرسخا . اهـ . وبه قال الحسن البصري والزهري والليث بن سعد وإسحاق وأبو ثور ، نقله عنهم النووي ، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز القصر في أقل من مسافة ثلاثة أيام ، وممن قال به أبو [ ص: 271 ] حنيفة ، وهو قول عبد الله بن مسعود ، وسويد بن غفلة ، والشعبي ، والنخعي ، والحسن بن صالح ، والثوري ، وعن أبي حنيفة أيضا يومان وأكثر الثالث ، واحتج أهل هذا القول بحديث ابن عمر وحديث أبي سعيد الثابتين في الصحيح : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم " ، وبحديث : " مسح المسافر على الخف ثلاثة أيام ولياليهن " ، ووجه الاحتجاج بهذا الحديث الأخير أنه يقتضي أن كل مسافر يشرع له مسح ثلاثة أيام ولا يصح العموم في ذلك إلا إذا قدر أقل مدة السفر بثلاثة أيام ; لأنها لو قدرت بأقل من ذلك لا يمكنه استيفاء مدته ; لانتهاء سفره فاقتضى ذلك تقديره بالثلاثة وإلا لخرج بعض المسافرين عنه . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      والاستدلال بالحديثين غير ظاهر فيما يظهر لي ; لأن المراد بالحديث الأول : أن المرأة لا يحل لها سفر مسافة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم ، وهذا لا يدل على تحديد أقل ما يسمى سفرا ، ويدل له أنه ورد في بعض الروايات الصحيحة لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي بعض الروايات الصحيحة : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة " وفي رواية لمسلم " مسيرة يوم " ، وفي رواية له " ليلة " ، وفي رواية أبي داود لا " تسافر بريدا " ، ورواه الحاكم ، وقال : صحيح الإسناد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال البيهقي في " السنن الكبرى " : وهذه الرواية في الثلاثة واليومين واليوم صحيحة ، وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - : سئل عن المرأة تسافر ثلاثا من غير محرم ، فقال : " لا " ، وسئل عنها تسافر يومين من غير محرم ، فقال : " لا " ، ويوما فقال : " لا " فأدى كل واحد منهم ما حفظ ولا يكون عدد من هذه الأعداد حدا للسفر . اهـ منه بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      فظهر من هذا أن الاستدلال على أقل السفر بالحديث غير متجه كما ترى لا سيما أن ابن عمر راويه قد خالفه كما تقدم ، والقاعدة عند الحنفية أن العبرة بما رأى الصحابي لا بما روى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الاستدلال بحديث توقيت مسح المسافر بثلاثة أيام بلياليهن فهو أيضا غير متجه ، لأنه إذا انتهى سفره قبلها صار مقيما وزال عنه اسم السفر وليس في الحديث أنه لا بد من أن يسافر ثلاثة بل غاية ما يفيده الحديث أن المسافر له في المسح على الخف [ ص: 272 ] مدة ثلاثة أيام ، فإن مكثها مسافرا فذلك ، وإن أتم سفره قبلها صار غير مسافر ولا إشكال في ذلك ، وذهب جماعة من أهل العلم : إلى أن القصر يجوز في مسيرة يوم تام ، وممن قال به الأوزاعي وابن المنذر واحتجوا بما تقدم في بعض الروايات الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق اسم السفر على مسافة يوم والسفر هو مناط القصر ، وبما رواه مالك في " الموطأ " عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن عمر كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم التام ، وظاهر صنيع البخاري أنه يختار أنها يوم وليلة ; لأنه قال : " باب في كم يقصر الصلاة وسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما وليلة سفرا " ; لأن قوله : وسمى النبي الخ . . . بعد قوله : " في كم يقصر الصلاة " ، يدل على أن ذلك هو مناط القصر عنده كما هو ظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب بعض العلماء إلى جواز القصر في قصير السفر وطويله ، وممن قال بهذا داود الظاهري ، قال عنه بعض أهل العلم : حتى إنه لو خرج إلى بستان خارج البلد قصر ، واحتج أهل هذا القول بإطلاق الكتاب والسنة جواز القصر بلا تقييد للمسافة ، وبما رواه مسلم في " صحيحه " عن يحيى بن يزيد الهنائي قال : سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك - صلى ركعتين " ، هذا لفظ مسلم وبما رواه مسلم أيضا في " الصحيح " عن جبير بن نفير قال : " خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلا فصلى ركعتين فقلت له . فقال : رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين فقلت له ، فقال : إنما أفعل كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل " ، وأجيب من جهة الجمهور بأنه لا دليل في حديثي مسلم المذكورين ; لأنه ليس المراد بهما أن تلك المسافة المذكورة فيهما هي غاية السفر ، بل معناه أنه كان إذا سافر سفرا طويلا فتباعد ثلاثة أميال قصر ; لأن الظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يسافر عند دخول وقت الصلاة إلا بعد أن يصليها فلا تدركه الصلاة الأخرى إلا وقد تباعد من المدينة ، وكذلك حديث شرحبيل المذكور . فقوله إن عمر رضي الله عنه صلى بذي الحليفة ركعتين محمول على ما ذكرناه في حديث أنس وهو أنه كان مسافرا إلى مكة أو غيرها فمر بذي الحليفة وأدركته الصلاة فصلى ركعتين لا أن ذا الحليفة غاية سفره ، قاله النووي وغيره ، وله وجه من النظر ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - القصر صريحا فيما دون مرحلتين كما جزم به النووي .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه - قال ابن حجر في " تلخيص الحبير " : وروى سعيد بن [ ص: 273 ] منصور عن أبي سعيد قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة وسكت عليه " ، فإن كان صحيحا فهو ظاهر في قصر الصلاة في المسافة القصيرة ظهورا أقوى من دلالة حديثي مسلم المتقدمين .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه - : هذا الذي ذكرنا هو حاصل كلام العلماء في تحديد مسافة القصر ، والظاهر أنه ليس في تحديدها نص صريح ، وقد اختلف فيها على نحو من عشرين قولا ، وما رواه البيهقي والدارقطني والطبراني عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد " ضعيف ; لأن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك ، وكذبه الثوري .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأزدي : لا تحل الرواية عنه وراويه عنه إسماعيل بن عياش ، وروايته عن غير الشاميين ضعيفة وعبد الوهاب المذكور حجازي لا شامي ، والصحيح في هذا الحديث أنه موقوف على ابن عباس رواه عنه الشافعي بإسناد صحيح ، ورواه عنه مالك في " الموطأ " بلاغا ، وقد قدمناه .

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر أن الاختلاف في تحديد المسافة من نوع الاختلاف في تحقيق المناط ، فكل ما كان يطلق عليه اسم السفر في لغة العرب يجوز القصر فيه ; لأنه ظاهر النصوص ولم يصرف عنه صارف من نقل صحيح ومطلق الخروج من البلد لا يسمى سفرا ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يذهب إلى قباء وإلى أحد ولم يقصر الصلاة ، والحديثان اللذان قدمنا عن مسلم محتملان وحديث سعيد بن منصور المتقدم لا نعلم أصحيح هو أم لا ؟ فإن كان صحيحا كان نصا قويا في قصر الصلاة في المسافة القصيرة والطويلة ، وقصر أهل مكة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع دليل عند بعض العلماء على القصر في المسافة غير الطويلة ، وبعضهم يقول : القصر في مزدلفة ، ومنى ، وعرفات ، من مناسك الحج ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه - : أقوى الأقوال فيما يظهر لي حجة ، هو قول من قال : إن كل ما يسمى سفرا ولو قصيرا تقصر فيه الصلاة ; لإطلاق السفر في النصوص ، ولحديثي مسلم المتقدمين ، وحديث سعيد بن منصور ، وروى ابن أبي شيبة ، عن وكيع ، عن مسعر ، عن محارب ، سمعت ابن عمر يقول : " إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الثوري : سمعت جبلة بن سحيم ، سمعت ابن عمر يقول : " لو خرجت [ ص: 274 ] ميلا قصرت الصلاة " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن حجر في " الفتح " : إسناد كل منهما صحيح . اهـ والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية