الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ولا يغرن أحدا قول العلماء إن منكر البسملة من الفاتحة أو من كل سورة لا يكفر ومثبتها لا يكفر فيظن أن سبب هذا عدم ثبوتها بالدليل القطعي ، كلا إنها ثابتة ولكن منكرها لا يكفر لتأويله الدليل القطعي بشبه المعارضة التي تقدمت وبينا ضعفها ، وسنزيده بيانا والشبهة تدرأ حد الردة .

                          وجملة القول أن اختلاف الروايات الآحادية في الإسرار بالبسملة والجهر بها قوي ، وأما الاختلاف في كونها من الفاتحة أو ليست منها فضعيف جدا جدا وإن قال به بعض كبار العلماء ذهولا عن رسم المصحف الإمام القطعي المتواتر والقراءات المتواترة التي لا يصح أن تعارض بروايات أحادية ، أو بنظريات جدلية ، وأصحاب الجدل يجمعون بين الغث والسمين وبين الضدين والنقيضين ، وصاحب الحق منهم يشتبه بغيره ، وربما يظهر عليه المبطل بخلابته ، إذا كان ألحن بحجته .

                          وقد ذكر الرازي في تفسيره سبع عشرة حجة على إثبات كون البسملة من الفاتحة منها القوية والضعيفة ، وتصدى له الألوسي محاولا دحضها تعصبا لمذهبه الذي تنحله في الكبر إذ كان شافعيا فتحول حنفيا تقربا إلى الدولة وصرح بهذا التعصب إذ قال هنا : " على المرء نصرة مذهبه والذب عنه " إلخ . وهذه كبرى زلاته المثبتة لعدم استقلاله بعدم طلبه الحق [ ص: 76 ] لذاته ، حتى إنه مارى في حجة لإثبات البسملة في أولها بخط المصحف المتواتر فجعلها دليلا على كونه من القرآن دون كونها من الفاتحة ، وهو من تمحل الجدل ، فلا معنى لكونها آية مستقلة في القرآن ألحقت بسوره كلها إلا واحدة وليست في شيء منها ولا في فاتحته التي اقتدوا بها في بدء كتبهم كلها ، إنه لقول واه تبطله عبادتهم وسيرتهم ، وينبذه ذوقهم ، لولا فتنة الروايات والتقليد . فتعارض الراويات اغتر به أفراد مستقلون ، وبالتقليد فتن كثيرون ، ولله في خلقه شئون .

                          على أن الألوسي حكم وجدانه واستفتى قلبه في بعض فروع المسألة ، فأفتاه بوجوب قراءة الفاتحة والبسملة في الصلاة ، وخانه في كونها آية منها ، وأورد في حاشية تفسيره على ذلك إشكالا استكبره جد الاستكبار وما هو بكبير ، فنحن نذكر عبارتيه ، ونقفي عليهما بالرد عليه . قال في تفسيره " روح المعاني " :

                          " وبالجملة يكاد أن يكون اعقتاد كون البسملة جزءا من سورة ( 1 ) من الفطريات ! ! كما لا يخفى على من سلم له وجدانه ( ! ! ) فهي آية من القرآن مستقلة ولا ينبغي لمن وقف على الأحاديث أن يتوقف في قرآنيتها . أو ينكر وجوب قراءتها ويقول بسنيتها ، فوالله لو ملئت لي الأرض ذهبا لا أذهب إلى هذا القول وإن أمكنني بفضل الله توجيهه ( ! ! ) كيف وكتب الأحاديث ملأى بما يدل على خلافه . وهو الذي صح عندي عن الإمام - يعني إمامه الجديد أبا حنيفة رحمه الله تعالى - والقول بأنه لم ينص بشيء ليس بشيء ، وكيف لا ينص إلى آخر عمره في مثل هذا الأمر الخطير الدائر عليه أمر الصلاة من صحتها أو استكمالها ، ويمكن أن يناط به بعض الأحكام الشرعية ، وأمور الديانات كالطلاق والحلف والعتق . وهو الإمام الأعظم ، والمجتهد الأقدم ، رضي الله عنه " ؟

                          وكتب في حاشيته عند قوله : فهي آية من القرآن مستقلة ما نصه :

                          استشكل بعضهم الإثبات والنفي ، فإن القرآن لا يثبت بالظن ولا ينفى به . وهو إشكال كالجبل العظيم ( ؟ ) وأجيب عنه أن حكم البسملة في ذلك حكم الحروف المختلف فيها بين القراء السبعة قطعية الإثبات والنفي معا ( ! ! ) ولهذا قرأ بعضهم بإثباتها وبعضهم بإسقاطها ، وإن اجتمعت المصاحف على الإثبات ، فإن من القراءات ما جاء على خلاف خطها كالصراط ومصيطر فإنهما قرئا بالسين ولم يكتبا إلا بالصاد ( وما هو على الغيب بضنين ) تقرأ بالظاء [ ص: 77 ] ولم تكتب إلا بالضاد ففي البسملة التخيير ، وتتحتم قراءتها في الفاتحة عند الشافعي احتياطيا ( ! ! ) وخروجا من عهدة الصلاة الواجبة بيقين لتوقف صحتها على ما أسماه الشرع فاتحة الكتاب فافهم ، والله أعلم بالصواب " ا هـ

                          أقول : نعم . إن الله أعلم بالصواب ، وقد وفق لعلمه أولي الألباب ، وهم ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ) دون الذين يستمعون القول فيتبعون منه ما وافق رواية فلان ورأي فلان ، ويوجبون على أنفسهم نصره ولو بتأويل ما مضت به السنة العملية وثبت بنص القرآن ، ولولا عصبية المذاهب عند المقلدين ، والغرور بظواهر بعض الروايات عند الأثريين ، لما اختلف أحد من الفريقين في هذه المسألة ، ونحمد الله تعالى أن اختلافهم فيها قولي جدلي لا عملي .

                          سبحان الله ! ما أعجب صنع الله في عقول البشر ! أيقول السيد محمود الألوسي العالم الذكي النزاع إلى استقلال الفكر في كثير من مسائل التفسير . وبالرغم من رضائه بمهانة جهالة التقليد : إن استشكال الجمع بين الإثبات والنفي القطعيين في مسألة البسملة " إشكال كالجبل العظيم " ؟ ثم يرضى بالجواب عنه بما يقرر به الجمع بين الإثبات والنفي القطعيين .

                          سبحان الله ! إن الجمع بين النفي والإثبات هو التناقض الحقيقي الذي يعز إيراد مثال للمحال العقلي مثله ، فكيف يصدر القول به عن عالم أو عن عاقل ؟

                          إن الإشكال الذي نظر إليه المفسر بعيني التقليد العمياوين فرآه كالجبل العظيم ، هو في نفسه صغير حقير ضئيل قميء خفي كالذرة من الهباء ، أو كالجزء لا يتجزأ من حيث كونه لا يرى ولا يثبت إلا بطريقة الفرض ، أو كالعدم المحض .

                          والجواب الحق : أنه لم ينف أحد من القراء كون البسملة من الفاتحة نفيا حقيقيا برواية متواترة عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - تصرح بأنها ليست من الفاتحة - كما يقول بعض الناس بشبهة عدم رواية القراء لها ، وشبه تعارض الروايات الآحادية التي ذكرنا أقواها والمخرج منها - أو ليست إلا جزء آية من سورة النمل ، كما زعم من لا شبهة لهم على النفي تستحق أن يجاب عنها .

                          وإنما أثبت بعض القراء بالروايات المتواترة : أن البسملة آية من الفاتحة وبعضهم لم يرو ذلك بأسانيده المتواترة ، وعدم نقل الإثبات للشيء ليس نفيا لذلك الشيء ، لا رواية ولا دراية . وأعم من هذا ، ما قال العلماء ، من أن بين عدم إثبات الشيء وبين إثبات عدمه بونا بعيدا كما هو معلوم بالضرورة . ولو فرضنا أن بعضهم روى التصريح بالنفي لجزمنا بأن روايته باطلة سببها أن بعض رجال سندها اشتبه عليه عدم الإثبات بإثبات النفي ، إذ يستحيل عقلا [ ص: 78 ] أن يكون الأمران المتناقضان قطعيين معا ، ورواية الإثبات لا يمكن الطعن فيها ، وناهيك وقد عززت بخط المصحف الذي هو بتواتره خطا وتلقينا أقوى من جميع الروايات القولية وأعصى على التأويل والاحتمال ، وأما القول بأنها آية مستقلة بين كل سورتين للفصل بينهما ما عدا الفصل بين سورتي الأنفال وبراءة ، فما هو إلا رأي للجمع بين الروايات الآحادية الظنية المتعارضة ، ويمكن الجمع بغيره مما لا إشكال فيه ، إذ لو كانت البسملة للفصل بين السور لم توضع في أول الفاتحة ولم تحذف من أول براءة للعلة التي ذكرناها عنهم في هذا البحث فهي لا تتحقق إلا إذا كانت البسملة من السورة ، ورد على ذلك ما أوردناه من المعاني والحكم في بدء القرآن بها ، وما صح مرفوعا من كونها هي السبع المثاني .

                          وأما الجواب الذي نقله الألوسي وارتضاه فلا يستغرب صدوره ولا إقراره ممن يثبت الجمع بين النقيضين المنطقيين ويفتخر بأنه يمكنه توجيه ما يعتقد بطلانه على أنه جواب عن إشكال غير وارد ، وبعبارة أخرى ليس جوابا عن إشكال إذ لا إشكال . والخلاف بين القراء في مثل السراط و الصراط ، ومسيطر ومصيطر ، وضنين ، وظنين ، ليس خلافا بين النفي والإثبات كمسألة البسملة بل هي قراءات ثابتة بالتواتر ، فأما ضنين وظنين فهما قراءتان متواترتان - كمالك وملك في الفاتحة - كتبت قراءة الضاد في مصحف أبي وهو الذي وزع في الأمصار وقرأ بها الجمهور ، وقراءة الظاء في مصحف عبد الله بن مسعود وقرأ بها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ولكل منهما معنى وليستا من قبيل تسهيل القراءة لقرب المخرج كما سيأتي في بيان الفرق بين مخرجي الحرفين قريبا ، وأما السراط والصراط ومسيطر ومصيطر فلا فرق بينهما إلا تفخيم السين وترقيقه وبكل منهما نطق بعض العرب وثبت به النص فهو من قبيل ما صح من تحقيق الهمزة و تسهيلها ، ومن الإمالة وعدمها ، فلا تنافي بين هذه القراءات فنعد إثبات إحداها نفيا لمقابلتها كما هو بديهي . على أن خط المصحف أقوى الحجج فلو فرضنا تعارض هذه القراءات لكان هو المرجح ، ولكن لا تعارض ولله الحمد .

                          نكتفي بهذا ردا لما في كلام الألوسي وأمثاله من الخطأ ، فإن غيره لا يعنينا في موضوعنا ولا سيما ما رجحه عن إمامه وخالف فيه غيره ، وعلله بإطلاقهم عليه لقب الإمام الأعظم ، وزيادته هو عليهم لقب المجتهد الأقدم ، مع علمه بأن علماء الصحابة والتابعين أقدم منه اجتهادا ، وأن هذه الألقاب وإن صح معناها لا تقتضي عدم الخطأ ولا عدم النسيان ولا إهمال بعض المسائل المهمة . ونحن يسرنا أن يصح ما ذكره ، وأن يخطئ ما أنكره ، فإن من المصائب أن يوجد في المسلمين عالم ينكر ما ثبت في خط المصحف المتواتر كتابة ورواية . وقد نقل الرازي أن أبا حنيفة ليس له نص في المسألة ، وإنما قال : يقرأ البسملة ويسر بها ، ولم يقل إنها آية من أول السورة أم لا . ( قال الرازي ) : وسئل محمد بن الحسن عن بسم الله الرحمن الرحيم ؟ [ ص: 79 ] فقال : ما بين الدفتين كلام الله ، قال ( أي السائل له ) : فلم تسره ؟ قال : فلم يجبني .

                          وقال الكرخي : لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدمي أصحابنا ، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة .

                          وقال بعض فقهاء الحنفية : تورع أبو حنيفة وأصحابه عن الوقوع في هذه المسألة ؛ لأن الخوض في أن البسملة من القرآن أو ليست منه أمر عظيم ، فالأولى السكوت عنه ا هـ .

                          أقول : من الخطأ البين الاستدلال بأمر بعض الفقهاء بإخفاء البسملة على كونها ليست من القرآن ، مع الإجماع على أن ما بين دفتي المصحف قرآن منزل من الله . على أن الروايات الصحيحة في الأحاديث فيها الجهر بالبسملة والإسرار ، وروايات الجهر أقوى وأبعد عن التعليل والتأويل .

                          وصفوة القول : أن دلالة المصحف أقوى الدلالات ، ترجح على كل ما عارضها من الروايات ، ودلالتها قطعية ، تؤيدها الروايات المتواترة في إثباتها ، والإجماع العملي على قراءتها ، ولا ينافيها عدم رواية بعضهم لها . فالمسألة قطعية في نفسها ، وإنما جعلوها اجتهادية باختلاف الروايات الآحادية في قراءتها ، وقد علمت ما فيها والله الموفق للصواب .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية