الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1833 حديث ثان لسعيد بن أبي سعيد

مالك ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها .

[ ص: 50 ]

التالي السابق


[ ص: 50 ] هكذا رواه جماعة الرواة للموطأ ، عن مالك ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ورواه بشر بن عمر ، عن مالك ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، وكان سعيد بن أبي سعيد فيما يقولون قد سمع من أبي هريرة وسمع من أبيه ، عن أبي هريرة . كذا قال ابن معين وغيره ، فجعلها كلها أحيانا عن أبي هريرة .

قال أبو عمر :

في هذا الحديث من الفقه أن المرأة لا يجوز لها أن تسافر هذه المسافة فما فوقها ، إلا مع ذي محرم ، أو زوج ، وقد اختلفت ألفاظ أحاديث هذا الباب في مقدار المسافة ، وسنذكر ذلك والمعنى فيه في آخر هذا الباب إن شاء الله .

واختلف الفقهاء من هذا المعنى في ذي المحرم للمرأة ، هل هو من السبيل الذي ذكر الله في الحج أم لا ؟ فقالت طائفة : المحرم من السبيل الذي قال الله عز وجل من استطاع إليه سبيلا فمن لم يكن لها من النساء ذو محرم فتخرج معه ، فليست ممن استطاع إلى الحج سبيلا ; لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم منها .

وممن ذهب إلى هذا إبراهيم النخعي ، والحسن البصري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبو ثور .

وقال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الرجل ، هل يكون محرما لأم امرأته يخرجها إلى الحج ، فقال : أما في حجة الفريضة فأرجو ; لأنها [ ص: 51 ] تخرج إليها مع النساء ومع كل من أمنته ، وأما في غيرها فلا ، وكأنه ذهب إلى أنه لم يذكر في القرآن .

قال أبو عمر :

يعني في قول الله عز وجل ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن الآية كلها .

قال الأثرم : قيل لأحمد : فيحج الرجل بأخت امرأته ؟ قال : لا ; لأنها ليست منه بمحرم ، لأنها قد تحل له ، قيل له : فالأخ من الرضاعة يكون محرما ؟ قال : نعم ، قيل له : فيكون الصبي محرما ، قال لا : حتى يحتلم ; لأنه لا يقوم بنفسه ، فكيف تخرج معه امرأة في سفر ، لا حتى يحتلم ، وتجب عليه الحدود ، أو يبلغ خمس عشرة سنة .

وقال آخرون : جائز للمرأة أن تحج حجة الفريضة إذا كانت مع ثقات من ثقات المسلمات والمسلمين ، فأما مالك والشافعي ، فقالا : تخرج مع جماعة النساء .

قال الشافعي : وإذا خرجت مع حرة مسلمة ثقة فلا شيء عليها .

وقال الأوزاعي : تخرج مع قوم عدول ، وتتخذ سلما تصعد عليه ، وتنزل ، ولا يقربها رجل إلا أن يأخذ برأس البعير ، وتضع رجلها على ذراعه .

وقال ابن سيرين : تخرج مع رجل من المسلمين لا بأس به .

وروى أيوب ، عن محمد أنه كان إذا سئل ، عن المرأة لم تحج وليس لها محرم ، [ ص: 52 ] فربما قال إنما المؤمنون إخوة ويقول : رب من ليس بمحرم أوثق من محرم . ذكره عبد الرزاق ، عن معمر وابن التيمي ، عن أيوب ، عن ابن سيرين .

قال أبو عمر :

ليس المحرم عند هؤلاء من شرائط الاستطاعة ، ومن حجتهم : الإجماع في الرجل يكون معه الزاد والراحلة ، وفيه الاستطاعة ، ولم يمنعه فساد طريق ولا غيره أن الحج عليه واجب ، قالوا فكذلك المرأة ; لأن الخطاب واحد ، والمرأة من الناس .

وفي هذا الحديث أيضا دليل على صحة ما ذهب إليه مالك والشافعي وأصحابهما في تقدير المسافة التي يجوز فيها للمسافر قصر الصلاة وتحديدها ; لأنهم قالوا لا تقصر الصلاة أقل من يوم وليلة ، وقدروا ذلك بثمانية وأربعين ميلا ، وهي أربعة برد ، وهو قول ابن عباس وابن عمر .

والأصل في ذلك حديث أبي هريرة هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ذكرنا .

واستدلوا من هذا الحديث بأن كل سفر يكون دون يوم وليلة فليس بسفر حقيقة ، وأن حكم من سافر حكم الحاضر ; لأن في هذا الحديث دليلا على إباحة السفر للمرأة ، فيما دون هذا المقدار مع غير ذي محرم ، فكان ذلك في حكم خروج المرأة في حوائجها إلى السوق ، وما قرب من المواضع المأمون عليها فيها في البادية والحاضرة ، وأما اليوم والليلة فظعن وسفر وانتقال يكون فيه الانفراد ، وتعترض فيه الأحوال ، فكان في حكم الأسفار الطوال ; لأن كل ما زاد عن اليوم والليلة من المدة في نوع اليوم والليلة وفي حكمها ، والله أعلم .

[ ص: 53 ] وقد اختلف الفقهاء في هذا الباب ، واختلفت فيه الآثار ، فقال مالك والشافعي ما ذكرنا عنهما ، وهو قول ابن عباس ، وابن عمر على ما وصفنا ، وبه قال أحمد وإسحاق .

وحجتهم الاستدلال بحديث هذا الباب على حسبما اجتلبنا ، وهو حديث مالك المذكور عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وكذلك رواه ابن أبي ذئب بمعنى رواية مالك في تحديد مسيرة يوم وليلة ، وربما قال : مسيرة يوم ، فما فوقه ، إلا أنه قال فيه : عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه ، كما قال بشر بن عمر ، عن مالك .

وكذلك رواه شيبان ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله على اختلاف ، عن سهيل في ذلك .

وقد روي هذا الحديث ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم لا تسافر امرأة بريدا إلا مع زوج ، أو ذي محرم .

ورواه ابن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم لم يقل يوما ولا غيره ، والألفاظ عن سهيل في هذا الحديث مضطربة ، لا تقوم بها حجة من روايته .

وقالت طائفة : لا تقصر الصلاة إلا في مسيرة يومين ، وكل سفر يكون دون ليلتين فللمرأة أن تسافر بغير محرم . هذا قول الحسن البصري والزهري ومن حجتهم ما رواه شعبة وغيره ، عن عبد الملك بن عمير ، عن قزعة مولى زياد ، عن أبي سعيد الخدري ، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تسافر المرأة مسيرة ليلتين إلا مع زوج أو ذي محرم .

[ ص: 54 ] ورواه مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن قزعة ، عن أبي سعيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تسافر امرأة فوق يومين إلا ومعها زوجها ، أو ذو محرم منها .

وقال آخرون : لا يقصر المسافر الصلاة إلا في مسيرة ثلاثة أيام ، وكل سفر يكون دون ثلاثة أيام ، فللمرأة أن تسافر بغير محرم . هذا قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه ، وهو قول ابن مسعود .

قال أبو حنيفة : ثلاثة أيام ولياليها : مسير الإبل ومشي الأقدام .

ومن حجتهم : ما رواه عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يحل لامرأة أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام إلا مع محرم .

ورواه عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

وروى الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تسافر المرأة سفر ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها زوجها أو ابنها أو ذو محرم منها .

وبعض أصحاب الأعمش ، يقول فيه بإسناده فوق ثلاث .

وروى سهيل ، عن أبيه وسعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله سواء . هذه رواية وهيب ، عن سهيل .

وروى روح بن القاسم ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعا مثله بمعناه ، والرواية الأولى عن سهيل رواها حماد بن سلمة ، وعبد العزيز بن المختار ، عن سهيل .

[ ص: 55 ] وروى بكر بن خنيس ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تسافر امرأة في الإسلام مسيرة بريد إلا مع زوج أو ذي محرم .

فحصل حديث سهيل في هذا الباب مضطربا في إسناده ومتنه .

وقد روى سفيان بن حمزة ، عن كثير بن زيد ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يا نساء المؤمنات ، لا تخرج امرأة مسيرة ليلة إلا ومعها ذو محرم .

وقد اضطربت الآثار المرفوعة في هذا الباب ، كما ترى في ألفاظها ، ومحملها عندي - والله أعلم - أنها خرجت على أجوبة السائلين ، فحدث كل واحد بمعنى ما سمع ، كأنه قيل له - صلى الله عليه وسلم - في وقت ما : هل تسافر المرأة مسيرة يوم بلا محرم ؟ فقال : لا ، وقيل له في وقت آخر : هل تسافر المرأة مسيرة يومين بغير محرم ؟ فقال : لا ، وقال له آخر : هل تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام بغير محرم ؟ فقال : لا . وكذلك معنى الليلة والبريد ونحو ذلك ، فأدى كل واحد ما سمع على المعنى ، والله أعلم .

ويجمع معاني الآثار في هذا الباب - وإن اختلفت ظواهرها - الحظر على المرأة أن تسافر سفرا يخاف عليها الفتنة بغير محرم ، قصيرا كان أو طويلا ، والله أعلم .

ومن حجة من ذهب في هذه المسالة مذهب أبي حنيفة : أن الثلاثة الأيام سفر مجتمع على تقصير الصلاة فيه ، والأصل في الصلاة التمام باليقين ، فالواجب أن لا تقصر إلا بيقين ، واليقين ما أجمعوا عليه في الثلاثة الأيام ; لأن ما دون ذلك مختلف فيه ، وهو قول ابن علية .

وهذا - وإن كان نظرا واحتياطا - فليس بجيد من طريق الاتباع ، وأولى ما قيل : في هذا الباب من طريق الاتباع : مذهب ابن عمر ، وابن عباس ، وأهل المدينة ، والشافعي ، والله الموفق للصواب .

وقال الأوزاعي : عامة العلماء يقولون : يقصر المسافر في مسيرة اليوم التام ، قال : وبه نأخذ ، وفي هذا الباب شذوذ تركنا حكايته ، تعلق به داود .




الخدمات العلمية