الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثانية : علم خفي . ينبت في الأسرار الطاهرة ، من الأبدان الزاكية ، بماء الرياضة الخالصة ، ويظهر في الأنفاس الصادقة ، لأهل الهمة العالية ، في الأحايين الخالية ، والأسماع الصاخية . وهو علم يظهر الغائب ، ويغيب الشاهد ، ويشير إلى الجمع .

يعني : أن هذا العلم خفي على أهل الدرجة الأولى ، وهو المسمى بالمعرفة عند هذه الطائفة .

قوله : ينبت في الأسرار الطاهرة .

لفظ السر يطلق في لسانهم ويراد به أمور .

أحدها : اللطيفة المودعة في هذا القالب ، التي حصل بها الإدراك والمحبة والإرادة والعلم . وذلك هو الروح .

الثاني : معنى قائم بالروح . نسبته إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن . وغالبا ما يريدون به : هذا المعنى .

[ ص: 444 ] وعندهم : أن القلب أشرف ما في البدن ، والروح أشرف من القلب . والسر ألطف من الروح .

وعندهم : للسر سر آخر . لا يطلع عليه غير الحق سبحانه . وصاحبه لا يطلع عليه ، وإن اطلع على سره . فيقولون السر ما لك عليه إشراف ، وسر السر ما لا اطلاع عليه لغير الحق سبحانه .

والمعنى الثالث : يراد به ما يكون مصونا مكتوما بين العبد وبين ربه ، من الأحوال والمقامات . كما قال بعضهم : أسرارنا بكر . لم يفتضها وهم واهم .

ويقول قائلهم : لو عرف زري سري لطرحته .

والمقصود قوله : ينبت في الأسرار الطاهرة .

يعني : الطاهرة من كدر الدنيا والاشتغال بها ، وعلائقها التي تعوق الأرواح عن ديار الأفراح . فإن هذه أكدار ، وتنفسات في وجه مرآة القلب والروح . فلا تنجلي فيها صور الحقائق كما ينبغي . والنفس تنفس فيها دائما بالرغبة في الدنيا والرهبة من فوتها . فإذا جليت المرآة بإذهاب هذه الأكدار صفت . وظهرت فيها الحقائق والمعارف .

وأما الأبدان الزكية .

فهي التي زكت بطاعة الله ، ونبتت على أكل الحلال . فمتى خلصت الأبدان من الحرام ، وأدناس البشرية ، التي ينهى عنها العقل والدين والمروءة ، وطهرت الأنفس من علائق الدنيا : زكت أرض القلب . فقبلت بذر العلوم والمعارف . فإن سقيت - بعد ذلك - بماء الرياضة الشرعية النبوية المحمدية - وهي التي لا تخرج عن علم ، ولا تبعد عن واجب ولا تعطل سنة - أنبتت من كل زوج كريم ، من علم وحكمة وفائدة وتعرف . فاجتنى منها صاحبها ومن جالسه أنواع الطرف والفوائد ، والثمار المختلفة الألوان والأذواق ، كما قال بعض السلف : إذا عقدت القلوب على ترك المعاصي : جالت في الملكوت . ثم رجعت إلى أصحابها بأنواع التحف والفوائد .

قوله : وتظهر في الأنفاس الصادقة يريد بالأنفاس أمرين .

أحدهما : أنفاس الذكر والمعرفة .

والثاني : أنفاس المحبة والإرادة . وما يتعلق بالمعروف المذكور . وبالمحبوب المراد من الذاكر والمحب . وصدقها خلوصها من شوائب الأغيار والحظوظ .

وقوله : لأهل الهمم العالية فهي التي لا تقف دون الله عز وجل . ولا تعرج في سفرها على شيء سواه . وأعلى الهمم : ما تعلق بالعلي الأعلى . وأوسعها : ما تعلق بصلاح [ ص: 445 ] العباد . وهي همم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، وورثتهم .

وقوله : في الأحايين الخالية .

يريد بها : ساعات الصفاء مع الله تعالى ، وأوقات النفحات الإلهية ، التي من تعرض لها يوشك أن لا يحرمها . ومن أعرض عنها فهي عنه أشد إعراضا .

وقوله : في الأسماع الصاخية

فهي التي صحت من تعلقها بالباطل واللغو ، وأصاخت لدعوة الحق ، ومنادي الإيمان . فإن الباطل واللغو خمر الأسماع والعقول . فصحوها بتجنبه والإصغاء إلى دعوة الحق .

قوله : وهو علم يظهر الغائب أي يكشف ما كان غائبا عن العارف .

قوله : ويغيب الشاهد أي يغيبه عن شهود ما سوى مشهوده الحق .

ويشير إلى الجمع وهو مقام الفردانية ، واضمحلال الرسوم ، حتى رسم الشاهد نفسه . والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية