الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        220 - الحديث الثاني : عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة - { لا هجرة ، ولكن جهاد ونية . وإذا استنفرتم فانفروا ، وقال : يوم فتح مكة : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق الله السموات والأرض . فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة . وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة . لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها . ولا يختلى خلاه . فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذخر . فإنه لقينهم وبيوتهم . فقال : إلا الإذخر } .

                                        التالي السابق


                                        " القين " الحداد . [ ص: 447 ] قوله عليه السلام " لا هجرة " نفي لوجوب الهجرة من مكة إلى المدينة . فإن " الهجرة " تجب من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام . وقد صارت مكة دار إسلام بالفتح . وإن لم يكن من هذه الجهة . فيكون حكما ورد لرفع وجوب هجرة أخرى بغير هذا السبب . ولا شك أنه تجب الهجرة اليوم من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام لمن قدر على ذلك .

                                        وفي ضمن الحديث : الإخبار بأن مكة تصير دار إسلام أبدا .

                                        وقوله عليه السلام ، " وإذا استنفرتم فانفروا " أي إذا طلبتم للجهاد فأجيبوا ولا شك أنه تتعين الإجابة والمبادرة إلى الجهاد في بعض الصور ، فأما إذا عين الإمام بعض الناس لفرض الكفاية ، فهل يتعين عليه ؟ اختلفوا فيه . ولعله يؤخذ من لفظ الحديث الوجوب في حق من عين للجهاد . ويؤخذ غيره بالقياس .

                                        وقوله عليه السلام " ولكن جهاد ونية " يحتمل أن يريد به جهادا مع نية خالصة إذ غير الخالصة غير معتبرة . فهي كالعدم في الاعتداد بها في صحة الأعمال . ويحتمل أن يراد : ولكن جهاد بالفعل ، أو نية الجهاد لمن يفعل ، كما قال عليه السلام { من مات ولم يغز ، ولم يحدث نفسه بالغزو . مات على شعبة من النفاق } .

                                        وقوله صلى الله عليه وسلم { إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض } تكلموا فيه ، مع قوله عليه السلام { إن إبراهيم حرم مكة } فقيل بظاهر هذا ، وأن إبراهيم أظهر حرمتها بعد ما نسيت . والحرمة ثابتة من يوم خلق الله السموات والأرض . وقيل : إن التحريم في زمن إبراهيم ، وحرمتها يوم خلق الله السموات والأرض : كتابتها في اللوح المحفوظ ، أو غيره : حراما . وأما الظهور للناس : ففي زمن إبراهيم عليه السلام .

                                        وقوله " فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وأنه لم يحل القتال " يدل على أمرين :

                                        أحدهما : أن هذا التحريم يتناول القتال .

                                        والثاني : أن هذا الحكم ثابت لا ينسخ . وقد تقدم ما في تحريم القتال أو إباحته .

                                        وقوله " لا يعضد شوكه " دليل على أن قطع الشوك ممتنع كغيره . وذهب إليه بعض مصنفي الشافعية . والحديث معه . وأباحه غيره ، من حيث إن الشوك مؤذ . [ ص: 448 ] وقوله " ولا ينفر صيده " أي يزعج من مكانه . وفيه دليل على طريق فحوى الخطاب : أن قتله محرم فإنه إذا حرم تنفيره ، بأن يزعج من مكانه ، فقتله أولى .

                                        وقوله " ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها " اللقطة - بإسكان القاف ، وقد يقال بفتحها - الشيء الملتقط . وذهب الشافعي إلى أن لقطة الحرم لا تؤخذ للتملك . وإنما تؤخذ لتعرف لا غير . وذهب مالك إلى أنها كغيرها في التعريف والتملك . ويستدل للشافعي بهذا الحديث .

                                        و " الخلى " بفتح الخاء والقصر : الحشيش إذا كان رطبا ، واختلاؤه : قطعه وقد تقدم . و " الإذخر " نبت معروف طيب الرائحة . وقوله " فإنه لقينهم " القين : الحداد ; لأنه يحتاج إليه في عمل النار ، و " بيوتهم " تحتاج إليه في التسقيف .

                                        وقوله عليه السلام " إلا الإذخر " على الفور تتعلق به من يروي اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم أو تفويض الحكم إليه من أهل الأصول . وقيل : يجوز أن يكون يوحى إليه في زمن يسير . فإن الوحي إلقاء في خفية . وقد تظهر أماراته وقد لا تظهر .




                                        الخدمات العلمية