الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 365 ] حديث حاد وأربعون من البلاغات

قال مالك : السنة في الذي يرفع رأسه قبل الإمام في ركوع ، أو سجود : أن يخر راكعا ، أو ساجدا ، ولا يقف ينتظر الإمام ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه .

وقال أبو هريرة الذي يرفع رأسه ، ويخفضه قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان .

التالي السابق


أما قوله : السنة فإنه أمر لا أعلم فيه خلافا ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التغليظ فيمن رفع رأسه قبل الإمام .

روى شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام راكعا ، أو ساجدا أن يحول الله رأسه رأس حمار ، أو صورته صورة حمار .

وهذا وعيد ، وتهديد ، وليس فيه أمر بإعادة فهو فعل مكروه لمن فعله ، ولا شيء عليه إذا أكمل ركوعه ، وسجوده .

وقد أساء وخالف سنة المأموم ، وعلى كراهية هذا الفعل للمأموم جماعة العلماء من غير [ ص: 366 ] أن يوجبوا فيه إعادة ، وكذلك قال أبو هريرة ناصيته بيد شيطان ، ولم يأمر فيه بإعادة .

وذكر مالك ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن مليح بن عبد الله السعدي ، عن أبي هريرة قال : الذي يرفع رأسه ، ويخفض قبل الإمام فإنما ناصيته بيد شيطان .

وأما قوله : وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه ، فإن قوله : إنما جعل الإمام ليؤتم به يستند من حديث مالك ، عن ابن شهاب ، عن أنس ، وقد مضى ذكره في باب ابن شهاب ، إلا أنه ليس فيه : فلا تختلفوا عليه ، ويستند قوله : فلا تختلفوا عليه من حديث مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا قال : سمع الله ، فقولوا : اللهم ربنا ، ولك الحمد ، وإذا صلى قاعدا ، فصلوا قعودا أجمعين رواه معن بن عيسى ، وحده في الموطأ ، عن مالك ، وقد روي من حديث همام بن منبه ، عن أبي هريرة .

ذكر عبد الرزاق ، حدثنا معمر بن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا قال : سمع الله لمن [ ص: 367 ] حمده فقولوا : اللهم ربنا لك الحمد ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين .

وقد مضى القول في معنى هذا الحديث في باب ابن شهاب إلا قوله : فلا تختلفوا عليه .

وفي قوله : فلا تختلفوا عليه ، دليل على أنه لا يجوز أن يكون الإمام في صلاة ، ويكون المأموم في غيرها ، مثل أن يكون الإمام في ظهر ، والمأموم في عصر ، أو يكون الإمام في نافلة ، والمأموم في فريضة ، وهذا موضع اختلف الفقهاء فيه : فقال مالك ، وأصحابه : لا يجزي أحدا أن يصلي صلاة الفريضة خلف المتنفل ، ولا يصلي عصرا خلف من صلى ظهرا ، وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، وقول جمهور التابعين بالمدينة والكوفة ، وحجتهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فمن خالفه في نيته فلم يأتم به ، وقال : فلا تختلفوا عليه ، ولا اختلاف أشد من اختلاف النيات ، إذ هي ركن العمل .

ومعلوم أن من صلى ظهرا خلف من يصلي عصرا ، أو صلى فريضة خلف من يصلي نافلة فلم يأتم بإمامه ، وقد اختلف عليه فبطلت صلاته ، وصلاة الإمام جائزة ; لأنه المتبوع لا التابع ، واحتجوا من قصة معاذ برواية عمرو بن يحيى ، عن معاذ بن رفاعة الزرقي ، عن رجل من بني سلمة أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطويل معاذ بهم ، فقال له [ ص: 368 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم : يا معاذ لا تكن فتانا ، إما أن تصلي معي ، وإما أن تخفف ، عن قومك .

قالوا : وهذا يدل على أن صلاته بقومه كانت فريضته ، وكان متطوعا بصلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .

قالوا : وصلاة المتنفل خلف من يصلي الفريضة لا يختلفون في جوازها .

وقال الشافعي ، والأوزاعي ، وداود ، والطبري : وهو المشهور ، عن أحمد بن حنبل بجواز أن يقتدي في الفريضة بالمتنفل ، ويصلي الظهر خلف من يصلي العصر ، فإن كل مصل يصلي لنفسه ، ومن حجتهم أن قالوا : إنما أمرنا أن نأتم به فيما ظهر من أفعاله أما النية فمغيبة عنا ، وما غاب عنا لم نكلفه .

قالوا : وفي هذا الحديث نفسه ، دليل على صحة ذلك ; لأنه قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه .

إذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا كبر فكبروا ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا
.

فعرفنا أفعاله التي يؤتم به فيها ، وهي الظاهرة إلينا من ركوعه ، وسجوده ، وتكبيره ، وقيامه ، وقعوده ، ففي هذه أمرنا أن لا نختلف عليه .

قالوا : والدليل على صحة هذا التأويل ، حديث جابر في قصة معاذ ، إذ كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء ، ثم ينصرف فيؤم قومه في تلك الصلاة هي له نافلة ، ولهم فريضة ، وهو حديث ثابت صحيح لا يختلف في صحته .

[ ص: 369 ] قالوا : ولا يصح أن يجعل معاذ صلاته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نافلة ، ويزهد في فضل الفريضة معه - صلى الله عليه وسلم - ، ويدلك على ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ، وهذا مانع لكل أحد أن تقام صلاة فريضة لم يصلها فيشتغل بنافلة عنها .

وقد روى ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر أن معاذا كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ( الآخرة ) ، ثم ينصرف إلى قومه فيصلي معهم هي له تطوع ، ولهم فريضة .

قال ابن جريج : وحديث عكرمة ، عن ابن عباس أن معاذا فذكر مثل حديث جابر سواء .

ومثل ذلك أيضا حديث أبي بكرة في صلاة الخوف صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطائفة ركعتين ، ثم بطائفة ركعتين ، وهو مسافر خائف ، فعلمنا أنه في الثانية متنفل .

وقد أجمعوا أنه جائز أن يصلي النافلة خلف من يصلي الفريضة إن شاء ، وفي ذلك دليل على أن النيات لا تراعى في ذلك ، والله أعلم .




الخدمات العلمية