الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المسألة العاشرة من الصفات

[ غسل الرجلين ]

اتفق العلماء على أن الرجلين من أعضاء الوضوء ، واختلفوا في نوع طهارتهما ، فقال قوم : طهارتهما الغسل ، وهم الجمهور ، وقال قوم : فرضهما المسح ، وقال قوم : بل طهارتهما تجوز بالنوعين : الغسل والمسح ، وإن ذلك راجع إلى اختيار المكلف ، وسبب اختلافهم القراءتان المشهورتان في آية الوضوء : أعني قراءة من قرأ ( وأرجلكم ) بالنصب [ ص: 18 ] عطفا على المغسول ، وقراءة من قرأ : ( وأرجلكم ) بالخفض عطفا على الممسوح ، وذلك أن قراءة النصب ظاهرة في الغسل ، وقراءة الخفض ظاهرة في المسح كظهور تلك في الغسل ، فمن ذهب إلى أن فرضهما واحد من هاتين الطهارتين على التعيين إما الغسل وإما المسح ذهب إلى ترجيح ظاهر إحدى القراءتين على القراءة الثانية ، وصرف بالتأويل ظاهر القراءة الثانية إلى معنى ظاهر القراءة التي ترجحت عنده ; ومن اعتقد أن دلالة كل واحدة من القراءتين على ظاهرها على السواء ، وأنه ليست إحداهما على ظاهرها أدل من الثانية على ظاهرها أيضا جعل ذلك من الواجب المخير ككفارة اليمين وغير ذلك ، وبه قال الطبري وداود .

وللجمهور تأويلات في قراءة الخفض ، أجودها أن ذلك عطف على اللفظ لا على المعنى ، إذ كان ذلك موجودا في كلام العرب مثل قول الشاعر :


لعب الزمان بها وغيرها بعدي سوافي المور والقطر

. بالخفض ، ولو عطف على المعنى لرفع " القطر " . وأما الفريق الثاني ، وهم الذين أوجبوا المسح ، فإنهم تأولوا قراءة النصب على أنها عطف على الموضع كما قال الشاعر :


فلسنا بالجبال ولا الحديدا

.

وقد رجح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت عنه - عليه الصلاة والسلام - إذ قال في قوم لم يستوفوا غسل أقدامهم في الوضوء : " ويل للأعقاب من النار " قالوا : فهذا يدل على أن الغسل هو الفرض ; لأن الواجب هو الذي يتعلق بتركه العقاب ، وهذا ليس فيه حجة ; لأنه إنما وقع الوعيد على أنهم تركوا أعقابهم دون غسل ، ولا شك أن من شرع في الغسل ففرضه الغسل في جميع القدم ، كما أن من شرع في المسح ففرضه المسح عند من يخير بين الأمرين ، وقد يدل على هذا ما جاء في أثر آخر خرجه أيضا مسلم أنه قال : فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى : " ويل للأعقاب من النار " وهذا الأثر وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح ، فهو أدل على جوازه منه على منعه ; لأن الوعيد إنما تعلق فيه بترك التعميم لا بنوع الطهارة ، بل سكت عن نوعها ، وذلك دليل على جوازها .

وجواز المسح هو أيضا مروي عن بعض الصحابة والتابعين ، ولكن من طريق المعنى ، فالغسل أشد مناسبة للقدمين من المسح كما أن المسح أشد مناسبة للرأس من الغسل ، إذ كانت القدمان لا ينقى دنسهما غالبا إلا بالغسل ، وينقى دنس الرأس بالمسح وذلك أيضا غالب ، والمصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسبابا للعبادات المفروضة حتى يكون الشرع لاحظ فيهما معنيين : معنى مصلحيا ، ومعنى عباديا ( وأعني بالمصلحي : ما رجع إلى الأمور المحسوسة ، وبالعبادي : ما رجع إلى زكاة النفس ) . وكذلك اختلفوا في الكعبين هل يدخلان في المسح أو في الغسل عند من أجاز المسح ؟ وأصل اختلافهم الاشتراك الذي في حرف ( إلى ) أعني : في قوله تعالى : ( وأرجلكم إلى الكعبين ) وقد تقدم القول في اشتراك هذا الحرف في قوله تعالى : ( إلى المرافق ) لكن الاشتراك وقع هنالك من جهتين من اشتراك اسم اليد ، ومن اشتراك حرف ( إلى ) وهنا من قبل اشتراك حرف ( إلى ) فقط .

وقد اختلفوا في الكعب ما هو ، وذلك لاشتراك اسم الكعب واختلاف أهل اللغة في دلالته ، فقيل : [ ص: 19 ] هما العظمان اللذان عند معقد الشراك ، وقيل : هما العظمان الناتئان في طرف الساق ، ولا خلاف فيما أحسب في دخولهما في الغسل عند من يرى أنهما عند معقد الشراك إذا كانا جزءا من القدم ، لذلك قال قوم : إنه إذا كان الحد من جنس المحدود دخلت الغاية فيه : ( أعني الشيء الذي يدل عليه حرف " إلى " ) ، إذا لم يكن من جنس المحدود لم يدخل فيه مثل قوله تعالى : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية