الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وهذا العطاء الذي أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - لقريش والمؤلفة قلوبهم ، هل هو من أصل الغنيمة ، أو من الخمس ، أو من خمس الخمس ؟ فقال الشافعي ومالك : هو من خمس الخمس ، وهو سهمه - صلى الله عليه وسلم - الذي جعله الله له من الخمس ، وهو غير الصفي ، وغير ما يصيبه من المغنم ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستأذن الغانمين في تلك العطية . ولو كان العطاء من أصل الغنيمة لاستأذنهم ؛ لأنهم ملكوها بحوزها والاستيلاء عليها ، وليس من أصل الخمس ؛ لأنه مقسوم على خمسة ، فهو إذا من خمس الخمس . وقد نص الإمام أحمد على أن النفل يكون من أربعة أخماس الغنيمة ، وهذا العطاء هو من النفل ، نفل النبي - صلى الله عليه وسلم - به رءوس القبائل والعشائر ، ليتألفهم به وقومهم على الإسلام ، فهو أولى بالجواز من تنفيل الثلث بعد الخمس ، والربع بعده لما فيه من تقوية الإسلام وشوكته وأهله ، واستجلاب عدوه إليه ، هكذا وقع ، سواء كما قال بعض هؤلاء الذي نفلهم : لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنه لأبغض الخلق إلي ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي ، فما ظنك بعطاء قوى الإسلام وأهله ، وأذل الكفر وحزبه ، واستجلب به قلوب رءوس القبائل والعشائر ، الذين إذا غضبوا ، غضب لغضبهم أتباعهم ، وإذا [ ص: 425 ] رضوا رضوا لرضاهم . فإذا أسلم هؤلاء ، لم يتخلف عنهم أحد من قومهم ، فلله ما أعظم موقع هذا العطاء ، وما أجداه وأنفعه للإسلام وأهله .

ومعلوم أن الأنفال لله ولرسوله يقسمها رسوله حيث أمره ، لا يتعدى الأمر ، فلو وضع الغنائم بأسرها في هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة ، لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل ، ولما عميت أبصار ذي الخويصرة التميمي وأضرابه عن هذه المصلحة والحكمة . قال له قائلهم : اعدل فإنك لم تعدل . وقال مشبهه : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ، ولعمر الله إن هؤلاء من أجهل الخلق برسوله ، ومعرفته بربه ، وطاعته له ، وتمام عدله ، وإعطائه لله ، ومنعه لله ، ولله - سبحانه - أن يقسم الغنائم كما يحب ، وله أن يمنعها الغانمين جملة ، كما منعهم غنائم مكة ، وقد أوجفوا عليها بخيلهم وركابهم ، وله أن يسلط عليها نارا من السماء تأكلها ، وهو في ذلك كله أعدل العادلين ، وأحكم الحاكمين ، وما فعل ما فعله من ذلك عبثا ، ولا قدره سدى ، بل هو عين المصلحة والحكمة والعدل والرحمة ، مصدره كمال علمه وعزته وحكمته ورحمته ، ولقد أتم نعمته على قوم ردهم إلى منازلهم برسوله - صلى الله عليه وسلم - ، يقودونه إلى ديارهم ، وأرضى من لم يعرف قدر هذه النعمة بالشاة والبعير ، كما يعطى الصغير ما يناسب عقله ومعرفته ، ويعطى العاقل اللبيب ما يناسبه ، وهذا فضله ، وليس هو سبحانه تحت حجر أحد من خلقه ، فيوجبون عليه بعقولهم ويحرمون ، ورسوله منفذ لأمره .

فإن قيل فلو دعت حاجة الإمام في وقت من الأوقات إلى مثل هذا مع عدوه ، هل يسوغ له ذلك ؟

قيل : الإمام نائب عن المسلمين يتصرف لمصالحهم ، وقيام الدين . فإن تعين ذلك للدفع عن الإسلام ، والذب عن حوزته ، واستجلاب رءوس أعدائه إليه ، ليأمن المسلمون شرهم ، ساغ له ذلك ، بل تعين عليه ، وهل تجوز الشريعة غير هذا ، فإنه وإن كان في الحرمان مفسدة ، فالمفسدة المتوقعة من فوات تأليف هذا العدو أعظم ، ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما ، [ ص: 426 ] وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما ، بل بناء مصالح الدنيا والدين على هذين الأصلين . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية