الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1352 1353 1354 1355 1356 ص: فكان من الحجة عليهم في ذلك ما سنبينه إن شاء الله تعالى:

                                                أما ما روي في ذلك عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن أبي الزناد الذي بدأنا بذكره في أول هذا الباب:

                                                فإن أبا بكرة قد حدثنا، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا أبو بكر النهشلي، قال: ثنا عاصم بن كليب ، عن أبيه: "أن عليا - رضي الله عنه - كان يرفع يديه في أول تكبيرة من الصلاة ثم لا يرفع بعد".

                                                حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، قال: ثنا أبو بكر النهشلي ، عن عاصم ، عن أبيه -وكان من أصحاب علي - رضي الله عنه - عن علي مثله.

                                                قال أبو جعفر -رحمه الله-: فحديث عاصم بن كليب هذا قد دل على أن حديث ابن أبي الزناد الذي رويناه في الفصل الأول من هذا الباب على أحد وجهين: إما أن يكون سقيما في نفسه ولا يكون في ذكر الرفع أصلا كما قد رواه غيره:

                                                فإن ابن خزيمة حدثنا، قال: ثنا عبد الله بن رجاء (ح).

                                                وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح وأحمد بن خالد الوهبي، قالوا: ثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ، عن عبد الله بن الفضل ... . ثم ذكروا مثل حديث ابن أبي الزناد في إسناده ومتنه ولم يذكروا الرفع في شيء من ذلك.

                                                قال أبو جعفر -رحمه الله-: فإن كان هذا هو المحفوظ، وحديث ابن أبي الزناد خطأ، فقد ارتفع بذلك أن يجب لكم بحديث خطأ حجة، وإن كان ما روى ابن أبي الزناد صحيحا لأنه زاد على ما روى غيره فإن عليا - رضي الله عنه - لم يكن ليرى النبي - عليه السلام - يرفع ثم يترك هو الرفع بعده، وإلا قد ثبت عنده نسخ الرفع، فحديث علي - رضي الله عنه - إذا صح ففيه أكبر الحجة لقول من لا يرى الرفع.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي فكان من الحجة والبرهان على أهل المقالة الأولى فيما قالوا: أحاديثنا أولى، لصحة أسانيدها واستقامة طرقها. وأحاديثهم هي التي رواها علي بن [ ص: 175 ] أبي طالب وعبد الله بن عمر ووائل بن حجر - رضي الله عنهم - فشرع يجيب عن ذلك جميعه ردا لما ادعوا من أولوية العمل بها لصحتها واستقامتها، فقال: أما ما روي عن علي - رضي الله عنه - وهو الذي رواه عنه عبيد الله بن أبي رافع المذكور في أول الباب، بيان ذلك: أن عليا - رضي الله عنه - وإن كان قد روي عنه ما يدل على رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه، فقد روي عنه أيضا ما ينافي ذلك ويعارضه فإن عاصم بن كليب روى عن أبيه: "أن عليا كان يرفع يديه في أول تكبيرة من الصلاة ثم لا يرفع بعد" فهذا يدل على أنه لا رفع لليدين إلا عند تكبيرة الإحرام، ويدل أيضا على أن حديث عبيد الله بن أبي رافع عنه الذي رواه عبد الرحمن بن أبي الزناد على وجهين:

                                                إما أن يكون سقيما في نفسه ولا يكون في ذكر الرفع أصلا كما قد رواه غير ابن أبي الزناد مثل حديث ابن أبي الزناد في الإسناد والمتن، وليس فيه الرفع في شيء من ذلك، وهو الحديث الذي رواه عبد الله بن الفضل ، عن الأعرج ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي كما نبينه عن قريب.

                                                فإن كان هذا محفوظا يكون حديث ابن أبي الزناد خطأ بالضرورة، فحينئذ لا تقوم حجة بحديث خطإ في نفسه.

                                                وإما أن يكون ما رواه ابن أبي الزناد صحيحا بحيث إنه زاد على ما روى غيره، فحينئذ يكون منسوخا. لأن عليا - رضي الله عنه - لا يجوز له أن يرى النبي - عليه السلام - يرفع، ثم يترك هو الرفع بعده، ولا يجوز له ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخ الرفع في غير تكبيرة الإحرام; لأن هذا هو حسن الظن بالصحابة، وهو أن يحمل مثل هذا على أنه علم انتساخ حكم الحديث فلذلك عمل أو أفتى بخلافه ومتى ما لم يحمل على هذا الوجه يلزم من ذلك إما أن يكون ذلك عن غفلة ونسيان، وإما أن يكون على وجه قلة المبالاة والتهاون بالحديث وكل واحد منهما محال في حق الصحابة; لأن في الأول شهادة مغفل وشهادة المغفل لا تكون حجة فكذلك خبره، وفي الثاني يلزم الفسق والفاسق لا تقبل روايته أصلا، والصحابة - رضي الله عنهم - منزهون عن هذه الأشياء، [ ص: 176 ] فظهر لنا أن الصحابي الراوي لحديث إذا ظهر منه المخالفة قولا أو فعلا يدل ذلك على أنه قد ثبت عنده النسخ فعمل بخلافه أو أفتى بخلافه.

                                                ثم إسناد حديث عاصم بن كليب صحيح من وجهين اللذين أخرجهما على شرط مسلم .

                                                وأبو أحمد اسمه محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي روى له الجماعة، وأبو بكر النهشلي الكوفي قيل: اسمه عبد الله بن قطاف، وقيل: عبد الله بن معاوية بن قطاف، وقيل: وهب بن قطاف، وقيل: معاوية بن قطاف، روى له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه .

                                                وعاصم بن كليب بن شهاب الجرمي روى له الجماعة البخاري مستشهدا، وأبوه كليب بن شهاب بن المجنون الجرمي قال أبو زرعة: ثقة. وكذا قال ابن سعد وابن حبان، واحتج به الأربعة.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا وكيع ، عن أبي بكر بن عبد الله بن قطاف النهشلي ، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه: "أن عليا - رضي الله عنه - كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود". انتهى.

                                                وفيه رد على ما حكى البيهقي : عن الشافعي أنه قال: ولا يثبت عن علي وابن مسعود أنهما كانا لا يرفعان أيديهما إلا في تكبيرة الإحرام.

                                                فإن قيل: روى البيهقي حديث عاصم بن كليب عن علي - رضي الله عنه - ثم قال: قال الدارمي: فهذا روي من هذا الطريق الواهي، وقد روى الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي - رضي الله عنه -: "أنه رأى النبي - عليه السلام - يرفعهما عند الركوع وبعدما يرفع رأسه من الركوع" .

                                                [ ص: 177 ] فليس الظن بعلي - رضي الله عنه - أنه يختار فعله على فعل النبي - رضي الله عنه -، ولكن ليس أبو بكر النهشلي ممن يحتج بروايته أو تثبت به سنة لم يأت بها غيره.

                                                قلت: كيف يكون هذا الطريق واهيا ورجاله ثقات؟! فقد رواه عن النهشلي جماعة من الثقات: ابن مهدي وأحمد بن يونس وغيرهما، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه كما ذكرناه، والنهشلي أخرج له مسلم وغيره كما ذكرنا، ووثقه ابن حنبل وابن معين وقال أبو حاتم: شيخ صالح يكتب حديثه. وقال الذهبي في كتابه: رجل صالح تكلم فيه ابن حبان بلا وجه، وبقية الرواة ثقات أيضا وقد ذكرناه.

                                                وقال الطحاوي في كتابه "الرد على الكرابيسي": الصحيح مما كان عليه علي بعد النبي - رضي الله عنه - ترك الرفع في شيء من الصلاة غير التكبيرة الأولى.

                                                فكيف يكون هذا الطريق واهيا؟! بل الطريق الواهي هو ما رواه ابن أبي رافع ، عن علي - رضي الله عنه - لأن في سنده عبد الرحمن بن أبي الزناد وفيه مقال كما ذكرناه.

                                                وقوله: "فليس الظن بعلي - رضي الله عنه - ... " إلى آخره لخصمه أن يعكسه ويجعل فعله بعد النبي – عليه السلام - دليلا على نسخ ما تقدم، إذ لا يظن به أنه يخالف فعله - عليه السلام - إلا بعد ثبوت نسخه عنده كما بيناه.

                                                ثم حديث عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة أخرجه من طريقين:

                                                الأول: عن محمد بن خزيمة ، عن عبد الله بن رجاء ، عن عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن عبد الله بن الفضل ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي .

                                                الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن عبد الله بن صالح ، وأحمد بن خالد الوهبي، كلاهما عن عبد العزيز ... إلى آخره.

                                                [ ص: 178 ] وكلا الطريقين ذكرهما في باب ما يقال في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام، وقد ذكرنا هناك أن هذا الحديث أخرجه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه مطولا ومختصرا.

                                                قوله: "فحديث علي - رضي الله عنه - إذا صحح ففيه أكبر الحجة لقول من لا يرى الرفع" أي رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام، وأراد بهذا الحديث هو الحديث الذي رواه عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ، عن عمه، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة كبر ... " إلى آخره، وإنما قال: هو أكبر الحجة لأنا وجدنا عبيد الله بن أبي رافع قد روي عنه هذان الحديثان أعني أحدهما: ما رواه ابن أبي الزناد، والآخر ما رواه عبد العزيز بن أبي سلمة ففي حديث ابن أبي الزناد زيادة ليست في حديث ابن أبي سلمة، وهي رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه، فنظرنا فيهما فوجدنا حديث ابن أبي سلمة أرجح وأقوى من حديث ابن أبي الزناد لأن حديث ابن أبي سلمة أخرجه مسلم وغيره كما ذكرنا، وحديث ابن أبي الزناد لم يخرجه مسلم ولا البخاري وإنما أخرجه الأربعة، على أن ابن أبي الزناد متكلم فيه، فقال أحمد: مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم: لا يحتج به. وقال عمرو بن علي: تركه ابن مهدي. ولئن سلمنا صحة حديث ابن أبي الزناد فإنه يلزم الخصم أن يقول به، والحال أنه لم يقل به; لأن فيه الرفع عند القيام من السجدتين، والخصم لا يرى بذلك.

                                                واعلم أن كلمة "إذا" في قوله: "إذا صح" ليست للشرط; لأن صحة حديث علي الذي رواه ابن أبي سلمة لا يشك فيها بل لمجرد الظرفية فافهم.




                                                الخدمات العلمية