الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1754 1755 ص: فإن قال قائل: ففي حديث عمرو بن مرة ما يدل على خلاف ذلك; لأنه قال: "صلى بنا، فلما انصرف جاء فصلى ركعة".

                                                قيل له: قد يجوز أن يكون ذلك الانصراف إلى منزله، وقد كان صلى قبل ذلك بعد انصرافه من صلاته.

                                                وقد حدثنا أبو أمية ، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: ثنا داود بن أبي هند ، عن عامر ، قال: "كان آل سعد ، وآل عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - يسلمون في الركعتين من الوتر ويوترون بركعة".

                                                فقد بين الشعبي في هذا الحديث مذهب آل سعد في الوتر ، وهم المقتدون بسعد ، المتبعون لفعله، وأن وترهم الذي كان ركعة ركعة إنما هو وتر بعد صلاة قد فصلوا بينه وبينها بتسليم، فقد عاد ذلك إلى قول الذين ذهبوا إلى أن الوتر ثلاث.

                                                وقد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود ، قال: ثنا حماد ، عن حماد ، عن إبراهيم: " ، أن ابن مسعود - رضي الله عنه - عاب ذلك على سعد".

                                                ومحال عندنا أن يكون عبد الله عاب ذلك على سعد -مع نبل سعد وعلمه- إلا لمعنى قد ثبت عنده هو أولى من فعله، ولو كان ابن مسعود إنما خالفه برأيه لما كان رأيه أولى من رأي سعد، ، ولما عاب ذلك على سعد ، إذ كان مأخذ ذلك هو الرأي، ولكن الذي علمه ابن مسعود مما خالفه فعل سعد في ذلك هو غير الرأي.

                                                التالي السابق


                                                ش: هذا اعتراض على الجواب المذكور، تقريره أن يقال: إنكم قلتم: يجوز أن يكون سعد بن أبي وقاص كان يفصل بين شفعه ووتره، فيكون قد صلى شفعه قبل

                                                [ ص: 115 ] وتره ثم أوتر بركعة، فيكون المجموع ثلاث ركعات كما هو كذلك في فعل عثمان - رضي الله عنه -، ولكن حديث عمرو بن مرة ينافي ما ذكرتم من هذا الكلام; لأنه قال: "صلى بنا، فلما انصرف جاء فصلى ركعة"، وليس ها هنا شيء قبل صلاته بركعة.

                                                وتقرير الجواب أن يقال: قد يجوز أن يكون ذلك الانصراف انصرافا إلى منزله فلما انصرف إلى منزله صلى هناك شفعه ثم لما جاء صلى ركعة، وقد صحح هذا التأويل بما أخرجه عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي ، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف أبي نصر العجلي روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن داود بن أبي هند دينار البصري روى له الجماعة البخاري مستشهدا، عن عامر بن شراحيل الشعبي .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا عبد الأعلى ، عن داود، عن الشعبي قال: "كان آل سعد وآل عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - يسلمون في ركعتي الوتر، ويوترون بركعة" انتهى.

                                                فهذا الشعبي قد بين في هذا الحديث أن مذهب آل سعد إنما هو وتر بعد شفع، قد فصلوا بينهما وبينه بتسليم، وآل سعد إنما أخذوا هذا من سعد; فإنهم مقتدون به ومتبعون لفعله، وأن وترهم الذي كان ركعة ركعة إنما هو وتر صادر بعد صلاة قد فصلوا بينه وبينها بتسليم، فإذا كان كذلك عاد معناه إلى قول من يقول: إن الوتر ثلاث ركعات.

                                                قوله: "وقد حدثنا أبو بكرة ... " إلى آخره، جواب آخر، تقريره: أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عاب على سعد - رضي الله عنه - إيتاره بركعة واحدة، ولم يكن ذلك إلا لمعنى قد ثبت عند عبد الله أنه هو الأولى من فعل سعد؛ إذ لو لم يكن كذلك لاستحال على عبد الله أن يعيب على سعد فعله ذلك مع نبالة سعد وعلمه وجلالة قدره; فدل ذلك أن سعدا إنما فعل ذلك برأيه واجتهاده، ألا ترى إلى ما قال سعد لما قيل له:

                                                [ ص: 116 ] إنك توتر بركعة: "إنما استقصرتها" على ما ذكرناه في رواية ابن أبي شيبة عن قريب.

                                                قوله: "ولو كان ابن مسعود إنما خالفه ... " إلى آخره، جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: لم لا يجوز أن يكون عيب ابن مسعود وإنكاره على سعد برأيه واجتهاده دون أمر ثبت عنده في ذلك؟

                                                وتقرير الجواب: أنه لو كان ذلك برأيه لما كان رأيه أولى من رأي سعد، ولما عاب به أيضا على سعد; لأن مأخذ ذلك منه الرأي، فالذي يفعل شيئا برأي لا ينكر على من يفعل خلافه برأي أيضا; لأن الإنكار لا مجال له في ذلك، وإنما ينكر على من يفعل برأي إذا كان عنده شيء قد ثبت بنص يخالف ذلك الرأي; فحينئذ يكون للإنكار مجال وتوجه.

                                                قوله: "مع نبل سعد" بضم النون وسكون الباء الموحدة، أي مع فضله، قال الجوهري: النبل والنبالة: الفضل، وقد نبل -بالضم- فهو نبيل.

                                                ثم إسناد ما أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي صحيح؛ لأن رجاله ثقات.

                                                وأبو داود هو سليمان بن داود الطيالسي ، وحماد الأول هو ابن سلمة ، وحماد الثاني هو ابن أبي سليمان أحد مشايخ أبي حنيفة ، وإبراهيم هو النخعي - رحمه الله -.




                                                الخدمات العلمية