الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1712 1713 1714 ص: وأما كريب فروى عن ابن عباس في ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوحاظي، قال: ثنا سليمان بن بلال، قال: ثنا شريك بن أبي نمر، أن كريبا أخبره، أنه سمع ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول: "بت ليلة عند رسول الله - عليه السلام - فلما انصرف من العشاء الآخرة انصرفت معه، فلما دخل البيت ركع ركعتين خفيفتين ركوعهما مثل سجودهما وسجودهما مثل قيامهما، ثم اضطجع مكانه في مصلاه حتى سمعت غطيطه، ثم تعار ثم توضأ فصلى ركعتين كذلك، ثم اضطجع مكانه فرقد حتى سمعت غطيطه، ثم فعل ذلك خمس مرات، فصلى عشر ركعات، ثم أوتر بواحدة، وأتاه بلال - رضي الله عنه - فآذنه بالصبح، فصلى ركعتين، ثم خرج إلى الصلاة".

                                                فقد أخبر في هذا الحديث أنه صلى عشر ركعات ثم أوتر بواحدة، فقد يحتمل أن يكون أوتر بواحدة مع اثنتين قد تقدمتاها فتكونان مع هذه الواحدة ثلاثا ليستوى معنى هذا الحديث ومعنى حديث علي بن عبد الله ، وسعيد بن جبير ، ويحيى بن الجزار .

                                                ثم نظرنا هل روي عنه ما يبين ذلك؟ فإذا إبراهيم بن منقذ العصفري قد حدثنا، قال: ثنا المقرئ ، عن سعيد بن أبي أيوب، قال: ثنا عبد ربه بن سعيد ، عن قيس بن سليمان ، عن كريب مولى ابن عباس - رضي الله عنهما -، أن عبد الله بن عباس حدثه قال: "فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد العشاء، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر بثلاث".

                                                [ ص: 75 ] فاتفق هذا الحديث وحديث ابن أبي داود على أن جميع ما صلى إحدى عشرة ركعة، وبين هذا أن الوتر فيها ثلاث.

                                                فثبت بذلك أن معنى حديث ابن أبي داود: "ثم أوتر بواحدة" أي مع الثنتين قد تقدمتاها، هما معها وتر.

                                                وقد حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن مخرمة بن سليمان ، عن كريب، أن عبد الله بن عباس حدثه: "أنه بات عند ميمونة -وهي خالته- فصلى رسول الله - عليه السلام - ركعتين، ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاء المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح".

                                                فقد زاد في هذا الحديث ركعتين، ولم يخالفه في الوتر، وكان ما روينا عن ابن عباس -لما جمعت معانيه- يدل على أن النبي - عليه السلام - كان يوتر بثلاث.

                                                التالي السابق


                                                ش: "كان بين رواية سعيد بن جبير ويحيى بن الجزار عن ابن عباس، وبين رواية كريب عن ابن عباس أيضا تضاد ظاهرا; لأن حديثهما عن ابن عباس يصرح بأنه كان يوتر بثلاث، وحديث كريب عنه يصرح بأنه كان يوتر بواحدة، فبينهما تضاد وخلاف، أراد أن يوفق بينهما; فذكر وجه التوفيق: أن معنى حديث كريب: "ثم أوتر بواحدة" أي مع اثنتين، أي ركعتين قد تقدمتا تلك الركعة الواحدة التي أوتر بها، فتكون هذه مع تلكما الركعتين ثلاث ركعات; فحينئذ يتفق الحديثان .

                                                ثم أخرج بإسناد صحيح ما يبين صحة هذا التوفيق: عن إبراهيم بن منقذ بن إبراهيم العصفري وثقه ابن يونس ، عن عبد الله بن يزيد القرشي أبي عبد الرحمن المقرئ روى له الجماعة، عن سعيد بن أبي أيوب مقلاص المصري روى له الجماعة، عن عبد ربه بن سعيد بن قيس بن عمرو الأنصاري أخي يحيى بن سعيد روى له

                                                [ ص: 76 ] الجماعة، عن قيس بن سليمان العنبري التميمي وثقه ابن حبان ، عن كريب، أن ابن عباس حدثه: "أنه - عليه السلام - أوتر بثلاث".

                                                فهذه الرواية عن كريب تدل على أن معنى روايته الأولى هو المعنى الذي ذكره الطحاوي; إذ التوفيق بين الروايتين المتعارضتين هو الأصل; لأن فيه الإعمال بالدليلين وإن لم يوفق فأقل المرتبة يسقط العمل بإحدى الروايتين، وهو خلاف الأصل.

                                                وأما إسناد حديث كريب في روايته الأولى فصحيح أيضا; لأن رجاله ثقات، فيحيى بن صالح الوحاظي أبو صالح الشامي شيخ البخاري وقد تكرر ذكره، وسليمان بن بلال القرشي أبو محمد المدني روى له الجماعة، وشريك بن أبي نمر هو شريك بن عبد الله بن أبي نمر القرشي أبو عبد الله المدني روى له الجماعة الترمذي في "الشمائل".

                                                وأخرجه الطبراني في "الكبير" : ثنا يحيى بن أيوب العلاف، ثنا سعيد بن أبي مريم، أنا محمد بن جعفر، أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن كريب ، عن ابن عباس قال: "رقدت في بيت خالتي ميمونة زوج النبي - عليه السلام - وكان النبي - عليه السلام - عندها; لأنظر كيف صلاة النبي - عليه السلام - من الليل؟ فتحدث النبي - عليه السلام - مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر أو نصفه قام فنظر إلى السماء فقرأ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ختى قرأ هذه الآيات، ثم قام فتوضأ واستن، ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى بالناس الصبح".

                                                وأخرج أبو داود مثل هذا: عن الفضل بن عباس، قال: حدثنا محمد بن بشار، نا أبو عاصم، نا زهير بن محمد ، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن كريب ، عن

                                                [ ص: 77 ] الفضل بن عباس قال: "بت ليلة عند النبي - عليه السلام - لأنظر كيف يصلي؟ فقام فتوضأ وصلى ركعتين; قيامه مثل ركوعه، وركوعه مثل سجوده، ثم نام، ثم استيقظ فتوضأ واستنثر، ثم قرأ الخمس آيات من آل عمران إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار فلم يزل يفعل هذا حتى صلى عشر ركعات، ثم قام فصلى سجدة واحدة فأوتر بها، ونادى المنادي عند ذلك، فقام رسول الله - عليه السلام - بعدما سكت المؤذن فصلى سجدتين خفيفتين، ثم جلس حتى صلى الصبح".

                                                قوله: "ثم تعار" بتشديد الراء، أي استيقظ، ولا يكون إلا يقظة مع كلام، وقيل: معناه تمطى، وقال الجوهري: تعار الرجل إذا هب من نومه مع صوت.

                                                قوله: "فآذنه" أي أعلمه بصلاة الصبح.

                                                وأما حديث يونس بن عبد الأعلى فقد أخرجه أيضا بإسناد صحيح; إيذانا بأن معنى هذه الرواية معنى الرواية السابقة وليس بينهما اختلاف، ولكنه زاد في هذه الرواية ركعتين، وهما ركعتا الصبح.

                                                وأخرجه البخاري : عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك .

                                                ومسلم : عن يحيى ، عن مالك .

                                                وأبو داود : عن القعنبي ، عن مالك .

                                                والنسائي : عن محمد بن سلمة ، عن ابن القاسم ، عن مالك .

                                                وابن ماجه : عن أبي بكر بن خلاد الباهلي ، عن معن بن عيسى ، عن مالك .

                                                وأحمد : عن عبد الرحمن ، عن مالك .

                                                [ ص: 78 ] ولفظ البخاري: عن كريب مولى ابن عباس، أنه أخبره عن عبد الله بن عباس: "أنه بات عند ميمونة أم المؤمنين - رضي الله عنها - وهي خالته، قال: فاضطجعت على عرض الوسادة واضطجع رسول الله - عليه السلام - وأهله في طولها، فنام رسول الله – صلى الله عليه وسلام - حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، ثم استيقظ رسول الله - عليه السلام - فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات خواتيم سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه، ثم قام يصلي، قال عبد الله بن عباس: فقمت فصنعت مثل ما صنع، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله - عليه السلام - يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمين يفتلها بيده، فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح".

                                                ويستفاد من هذا الحديث أربعة عشر حكما:

                                                - جواز نوم الرجل مع امرأته من غير مواقعة بحضور بعض محارمها وإن كان مميزا.

                                                - واستحباب قيام الليل.

                                                - وجواز القراءة للمحدث.

                                                - واستحباب قراءة الآيات المذكورة عند القيام من النوم.

                                                - وجواز قول: "سورة آل عمران" و"سورة البقرة" ونحوهما.

                                                - وإحسان الوضوء، وهو إسباغه وتكميله.

                                                - واستحباب تأخير الوتر إلى آخر الليل لمن يثق بالانتباه.

                                                - واستحباب الاضطجاع بعد الوتر.

                                                - واستحباب اتخاذ المؤذن لإعلام مواقيت الصلوات.

                                                - وجواز إتيان المؤذن إلى الإمام ليخرج إلى الصلاة.

                                                [ ص: 79 ] - وصلاة ركعتي الفجر.

                                                - والتخفيف فيهما.

                                                - والتنفل بالليل ركعتين ركعتين.

                                                - والرابع عشر: أن الوتر ثلاث ركعات، أشار إليه بقوله: "وكان ما روينا عن ابن عباس لما جمعت معانيه يدل على أن وتره - عليه السلام - كان ثلاث ركعات، فافهم".




                                                الخدمات العلمية