الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2120 2121 2122 2123 2124 2125 2126 2127 2128 2129 ص: فأما النظر في ذلك فعلى غير هذا المعنى; وذلك أنا رأينا السجود المتفق عليه هو عشر سجدات:

                                                منهن: الأعراف، وموضع السجود منها قوله: إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون

                                                [ ص: 518 ] ومنهن: الرعد، وموضع السجود منها قوله -عز وجل-: ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال

                                                ومنهن: النحل، وموضع السجود منها عند قوله -عز وجل-: ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة إلى: ويفعلون ما يؤمرون

                                                ومنهن: سورة بني إسرائيل، وموضع السجود منها عند قوله -عز وجل-: يخرون للأذقان سجدا إلى قوله: خشوعا

                                                ومنهن: سورة مريم، وموضع السجود منها عند قوله -عز وجل-: إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا

                                                ومنهن: سورة الحج ) فيها سجدة في أولها عند قوله: ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات إلى آخر الآية .

                                                ومنهن: سورة الفرقان، وموضع السجود منها عند قوله: وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن إلى آخر الآية .

                                                ومنهن: سورة النمل فيها سجدة عند قوله: ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء إلى آخر الآية .

                                                ومنهن: الم تنزيل ، فيها سجدة عند قوله: إنما يؤمن بآياتنا إلى آخر الآية .

                                                [ ص: 519 ] ومنهن: حم تنزيل من الرحمن الرحيم وموضع السجود منها فيه اختلاف، فقال بعضهم: موضعه تعبدون وقال بعضهم: موضعه فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون

                                                وكان أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد رحمهم الله إلى هذا المذهب الأخير يذهبون.

                                                وقيل: اختلف المتقدمون في ذلك:

                                                فحدثنا صالح بن عبد الرحمن ، قال: ثنا سعيد بن منصور ، قال: ثنا هشيم ، قال: أنا فطر بن خليفة ، عن مجاهد، عن ابن عباس: "أنه كان يسجد في الآية الأخيرة من حم تنزيل ".

                                                حدثنا فهد ، قال: ثنا أبو نعيم ، قال: ثنا فطر ، عن مجاهد قال: "سألت ابن عباس عن السجدة التي في حم قال: اسجد بآخر الآيتين".

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا أبو أحمد ، قال: ثنا مسعر ، عن عمرو بن مرة ، عن مجاهد ، قال: "سجد رجل في الآية الأولى من حم ، فقال ابن عباس: عجل هذا بالسجود".

                                                حدثنا صالح ، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم ، قال: أنا مغيرة ، عن أبي وائل: " أنه كان يسجد في الآخرة من حم ".

                                                حدثنا صالح ، قال: ثنا سعيد ، قال: ثنا هشيم ، قال: أنا ابن عون ، عن ابن سيرين مثله.

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا أبو عاصم ، قال: ثنا سفيان الثوري ، عن ليث ، عن مجاهد مثله.

                                                [ ص: 520 ] حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا روح ، قال: ثنا شعبة ، عن قتادة مثله.

                                                حدثنا فهد ، قال: ثنا أبو غسان ، قال: ثنا زهير ، قال: ثنا أبو إسحاق ، قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد يذكر: " أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - كان يسجد في الآية الأولى من حم".

                                                حدثنا صالح ، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم ، عن رجل ، عن نافع ، عن ابن عمر مثله.

                                                فكانت هذه السجدة التي في حم مما قد اتفق عليه، واختلفوا في موضعها، وما قد ذكرنا قبل هذا من السجود في السور الأخرى قد اتفقوا عليها وعلى مواضعها التي ذكرناها، وكان موضع كل سجدة فيها فهو موضع إخبار وليس بموضع أمر، وقد رأينا السجود مذكورا في مواضع أمر منها قوله تعالى: يا مريم اقنتي لربك واسجدي ومنها قوله تعالى: وكن من الساجدين فكل قد اتفق أن لا سجود في شيء من ذلك.

                                                فالنظر على ذلك أن يكون كل موضع اختلف فيه هل فيه سجود أم لا أن ننظر فيه، فإن كان موضع أمر فإنما هو تعليم فلا سجود فيه، وكل موضع فيه خبر عن السجود فهو موضع سجدة التلاوة، فكان الموضع الذي اختلف فيه من سورة والنجم فقال قوم: هو موضع سجود التلاوة، وقال آخرون: ليس هو موضع سجدة تلاوة، وهو قوله تعالى: فاسجدوا لله واعبدوا فذلك أمر وليس بخبر.

                                                فكان النظر على ما ذكرنا أن لا يكون موضع سجود التلاوة، وكان الموضع الذي اختلف فيه أيضا من اقرأ باسم ربك هو قوله: كلا لا تطعه واسجد واقترب [ ص: 521 ] فذلك أمر وليس بخبر، فالنظر على ما ذكرنا أن لا يكون موضع سجود التلاوة، وكان الموضع الذي اختلف فيه من إذا السماء انشقت هل هو موضع السجود أو لا؟ وهو قوله: فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون فذلك موضع إخبار لا موضع أمر، فالنظر على ما ذكرنا أن يكون موضع سجود التلاوة، ويكون كل شيء من السجود يرد إلى ما ذكرنا، فما كان منه أمر رد إلى شكله مما ذكرنا فلم يكن فيه سجود، وما كان منه خبر رد إلى شكله من الإخبار فكان فيه سجود، فهذا هو النظر في هذا الباب.

                                                وكان يجيء على ذلك أن يكون موضع السجود من حم هو الموضع الذي ذهب إليه ابن عباس; لأنه عند خبر وهو قوله: فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون لا كما ذهب إليه من خالفه; لأن أولئك جعلوا السجدة عند أمر وهو قوله: واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون فكان ذلك موضع أمر، وكان الموضع الآخر موضع خبر، وقد ذكرنا أن النظر يوجب أن يكون السجود في موضع الخبر لا في موضع الأمر، وكان يجيء على ذلك أن لا يكون في سورة الحج ) غير سجدة واحدة; لأن الثانية المختلف فيها إنما موضعها في قول من يجعلها سجدة موضع أمر وهو قوله: اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم الآية، وقد بينا أن مواضع سجود التلاوة هي مواضع الإخبار لا مواضع الأمر، فلو خلينا والنظر لكان القول في سجود التلاوة أن ننظر، فما كان منه موضع أمر لم نجعل فيه سجودا، وما كان منه موضع خبر جعلنا فيه سجودا; ولكن اتباع ما قد ثبت عن رسول الله - عليه السلام - أولى.

                                                [ ص: 522 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 522 ] ش: أي فأما وجه النظر والقياس في كون السجود في المفصل فعلى غير هذا المعنى، وهو وجوب السجود في المفصل وغيره وعدم الوجوب، وبين ذلك بقوله: "إنا رأينا السجود المتفق عليه ... " إلى آخره، ملخصه محررا: أن السجدات المتفق عليها عشر، وهي: الأعراف، والرعد، والنحل، وبنو إسرائيل، ومريم، والأولى من الحج، والفرقان، والنمل، والم تنزيل ، و حم تنزيل من الرحمن الرحيم وفي موضع السجدة فيه اختلاف، فقال بعضهم: موضعه تعبدون وأراد بهم: مالكا وبعض الشافعية، ويحكى ذلك عن الحسن البصري ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي ، وطلحة ، ويحيى ، وزبيد اليامي ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، والأعمش ، ومسروق، وأصحاب عبد الله; فإن هؤلاء كلهم يذهبون إلى أن موضع السجود في حم السجدة عند قوله تعبدون

                                                وقال بعضهم: موضعه فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون وأراد بهم: سعيد بن جبير ، ومحمد بن سيرين في رواية، والنخعي في رواية، وشقيق بن سلمة ، وابن أبي ليلى ، وأبا حنيفة، وأصحابه; فإنهم ذهبوا إلى أن موضع السجود في هذه السورة عند قوله: وهم لا يسأمون ويحكى ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنه -، وهو مذهب الشافعي في الصحيح ومذهب الجمهور; لأن في ذلك أخذا بالاحتياط عند اختلاف مذاهب الصحابة، فإن السجدة لو وجبت عند قوله: تعبدون فالتأخير أولى إلى قوله: لا يسأمون لنخرج عن الواجب باليقين، ولو وجبت عند قوله: لا يسأمون لكانت السجدة المؤداة قبله حاصلة قبل وجوبها.

                                                ثم أشار إلى بيان اختلاف الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - بقوله: "وقيل: اختلف المتقدمون في ذلك" أي في موضع السجود في سورة حم تنزيل .

                                                [ ص: 523 ] وأخرج عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من ثلاث طرق صحاح:

                                                أحدها: عن صالح بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن منصور ، عن هشيم بن بشير ، عن فطر بن خليفة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس .

                                                والثاني: عن فهد بن سليمان ، عن أبي نعيم الفضل بن دكين ، عن فطر بن خليفة ... إلى آخره.

                                                وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا محمد بن فضيل ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أنه كان يسجد في آخر الآيتين من حم السجدة".

                                                والثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن أبي أحمد- اسمه محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري الأسدي الكوفي ، عن مسعر بن كدام ، عن عمرو بن مرة ، عن مجاهد ... إلى آخره.

                                                قوله: "عجل هذا بالسجود" كالإنكار عليه بأن الآية الأولى ليست موضع السجدة، وأن محلها: الآية الأخيرة.

                                                وأخرج أيضا: عن عبد الله بن مسعود بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان ، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري ، عن زهير بن معاوية ، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ، عن عبد الرحمن بن يزيد .

                                                وأخرج عبد الرزاق : عن معمر ، عن أبي إسحاق، قال: سمعته يذكر عن بعضهم: "أنه كان لا يسجد في الأولى إن كنتم إياه تعبدون ".

                                                وأخرج أيضا عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: عن صالح بن عبد الرحمن ، عن سعيد [ ص: 524 ] بن منصور ، عن هشيم بن بشير ، عن رجل، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يسجد في الآية الأولى من حم ".

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا هشيم ، عن حجاج ، عن نافع ، عن ابن عمر: "أنه كان يسجد بالأولى".

                                                قلت: لعل الرجل المجهول في رواية الطحاوي هو حجاج المذكور في رواية ابن أبي شيبة .

                                                وأخرج عن أبي وائل شقيق بن سلمة بإسناد صحيح، عن صالح بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن منصور ، عن هشيم بن بشير ، عن مغيرة بن مقسم الضبي، عنه.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا هشيم، قال: أنا مغيرة ، عن أبي وائل: "أنه كان يسجد في الآخرة -أي في الآية الآخرة- في سورة حم السجدة".

                                                وأخرج عن ابن سيرين أيضا بإسناد صحيح، عن صالح بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن منصور ، عن هشيم بن بشير ، عن عبد الله بن عون ، عن محمد بن سيرين .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا هشيم ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين: "أنه كان يسجد في الآخرة".

                                                وأخرج عن مجاهد أيضا بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار ، عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد النبيل ، عن سفيان الثوري ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد .

                                                وأخرج عن قتادة أيضا بإسناد صحيح، عن أبي بكرة ، عن روح بن عبادة ، عن شعبة ، عن قتادة .

                                                [ ص: 525 ] وأخرجه عبد الرزاق : عن معمر ، عن قتادة نحوه.

                                                قوله: "فكانت هذه السجدة التي في حم " أشار بالفاء التفسيرية إلى بيان قوله: "فأما النظر في ذلك فعلى غير هذا المعنى"، بيانه: أن السجدة في حم تنزيل متفق عليها، والاختلاف في موضعها، والسور العشر التي ذكرناها غير حم تنزيل متفق عليها في السجود فيها وفي مواضعها، ثم إن موضع كل سجدة من هذه السور موضع إخبار يعني في صورة الإخبار وليست في صورة أمر، وقد جاء في مواضع من القرآن لفظ السجود مذكورا بصورة الأمر كما في قوله تعالى: يا مريم اقنتي لربك واسجدي وقوله تعالى: وكن من الساجدين والعلماء كلهم قد اتفقوا أن لا سجود في شيء من ذلك، فالنظر والقياس على ذلك أن يكون كل موضع اختلف فيه هل فيه سجود أم لا؟ غير موضع للسجود إن كان في صورة الأمر; لأنه تعليم، فلا سجود فيه، وإن كان في صورة خبر يكون فيه السجود، فالنظر والقياس على ذلك أن تكون سورة والنجم غير موضع السجود كما ذهب إليه الخصم; لأنه في صورة الأمر، وكذلك سورة اقرأ باسم ربك لأنه في صورة الأمر، ولكن يترك القياس عند وجود الآثار، وأما سورة الانشقاق فكان ينبغي للخصم أن يقول بالسجود فيها ، لأنها في موضع الإخبار، وقد قلنا: إن السجدة إنما تجب إذا كان في موضع الإخبار على ما ورد من الآثار في السجود فيها، فوجد فيها الآثار والقياس جميعا.

                                                قوله: "ويكون كل شيء من السجود يرد إلى ما ذكرنا" يعني: إن كان من صورة الأمر يرد إلى ما اتفق عليه من عدم السجدة مما هو في صورة الأمر، وإن كان من صورة الخبر -وهو مما اختلف فيه- يرد إلى ما اتفق عليه من وجوب السجدة مما هو

                                                [ ص: 526 ] في صورة الخبر، ثم بين ذلك بالفاء التفسيرية بقوله: "فما كان منه أمر رد إلى شكله" بفتح الشين أي رد إلى نظيره ومثله.

                                                قوله: "وكان يجيء على ذلك" أي على وجه النظر والقياس الذي ذكره، وأراد بهذا تقوية ما ذهب إليه ابن عباس الذي ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه من جهة النظر والقياس، وقد بين وجه ذلك في الكتاب فلا حاجة إلى التطويل.

                                                قوله: "ولو خلينا" على صيغة المجهول.

                                                قوله: "والنظر" بنصب الراء على أنه مفعول معه.

                                                قوله: "لكان القول" جواب لو، والباقي ظاهر.

                                                ثم اعلم أن ما ذكره الطحاوي يعكر على ما قاله شراح كتب الحنفية من قولهم: إن مواضع السجود في القرآن منقسمة، منها ما هو أمر بالسجود، والأمر للوجوب كما في آخر سورة القلم. وهذا كلام غير سديد; إذ لو كان وجوب سجدة التلاوة في هذا الموضع لأجل كونه في صورة الأمر لوجبت أيضا عند قوله: وكن من الساجدين وقوله: اقنتي لربك واسجدي فظهر من هذا أن الحق مع الطحاوي .


                                                إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام






                                                الخدمات العلمية